محمد حسين يونس
بدأت هذه السلسلة بالتساؤل لماذا لا نعترف بأننا قد تخلفنا عن زماننا .. و عرضت أشكال ذلك النكوص .. و قلت أن هناك ثلاث عوامل رئيسية أدت لان نتوقف ونثبت مكاننا بينما العالم يجرى من حولنا . و كانت .. بترتيب تأثيرها ((القوى العظمي و تحكمها في مسار وجودنا .. ثم أحاديث الكهانة .. و صياغتها للعقل المصرى علي مر العصور .. و إنتهاء بحكم الفاشيست وتدهور البلاد و تخلفنا عن الدرب)).

فإذا ما تأملنا هذا مليا .. فسنجد أن العطب قد أصاب منطقة إتخاذ القرار في مجتمعنا .. و أن إصلاحة يتطلب الوعي به كسبب و كأعراض .. ثم علاج حالة الإستكانة و الخمول و الإستسلام و إستعذاب الألم التي أصبحت مثل العاهات المصاحبة للأداء المصرى .

نقطة البداية .. عكسية في ترتيب لأسباب الأزمة .. فهي أولا إنهاء تحكم القوى الفاشيستية في أقدار البشر .. ثم إعادة صياغة العقل المصرى بتغليب علوم العصر و فلسفاته .. ثم مناطحة القوى العظمي و الفكاك من أسر أسواقها .. بمعني أننا سنصلح الداخل .. قبل أن نواجه الخارج و بنوك الديانة .
قد يكون من الهام دراسة تلك الفترة التي مرت علي مصر منذ هزيمة نفارين أكتوبر 1827.. حتي هزيمة 1967.. و معرفة كيف تغلب المصرى علي بؤسه والام إنكسار قوته و اسطولة و جيشة .. وكيف تماسك (مسلمين و مسيحيين ) في مواجهة الإحتلال البريطاني.. و كونوا مجتمعا ليبراليا .. تتنافس فيه الأفكار و الأفعال .. و ترتكب فيه الأخطاء فتواجه .. و يتم إصلاح ما أعطبت .

معجزة تحول الانسان من جامع ثمار وأعشاب وجذور ، الى متجول فى فضاء الكون ، أسطورة لم تأخذ حقها من الدراسة والتأمل والفهم .
فجامع الثمار الذى كان الأقرب للحيوانات عندما ضنت عليه الطبيعة بما يقتات ، إخترع أدوات للقتل جعلت منه صيادا .

وعندما ضاقت به الكهوف بنى منزله فكان بمقدوره أن يدجن الطيور ويستأنس الحيوانات ، ليستفيد من لبنها وبيضها ولحمها وعسلها .
هذا الانسان البدائى عندما راقب دورة الحياة فى الطبيعة ، توصل للزراعة ، ثم الاستقرار فى القرى والمجتمعات وتفلسف وتعلم وأقام حضارة دامت لعشرات الألاف من السنين ..حين أصبح بمقدوره أن يحلق فى الفضاء مستكشفا .

الانسان خلال رحلته الطويلة ، كانت الحاجة دائما ما تدفعه للاختراع ، وكان كسر المألوف طريقه للابتكار وقاطرة تقود تقدمه من مرحلة لأخرى .
لم يكن طريق البشر سهلا ، فلقد كان عليهم مغالبة الطبيعة وكائنات مرئية ولا مرئية بامكانيات محدودة بقدرة العقل البشرى .

وإن كان أشرس من غالبهم دائما ،كانوا هؤلاء الذين تمسكوا بالقديم ، وما ورثوه عن الأجداد من تقاليد ، فلقد كانوا فى الغالب يدافعون عن مصالح شخصية أو قناعة غير قابلة للتعديل
الصراع بين كسر المألوف والمحافظة عليه ، بين الحداثة و التراث ...كان اللحن الدائم الذى عزفته البشرية جيل بعد جيل .

حدث هذا مع أول ثورة صناعية استخدم فيها البخار كطاقة حركة وإنتاج ، ثم تكرر مع توليد الكهرباء ثم اكتشاف قوة التفجيرات النووية ، ومع إطلاق الصورايخ للفضاء ، ومع التحكم فى الأوبئة والأمراض ، ومع التوصل الى الخريطة الجينية للكائنات الحية ، كلها جاءت بعد معارك ضاريه مع المحافظين .

الصراع كما أجمع فلاسفة القرن التاسع عشر ، كان دائما الطاقة المحركة لتقدم الانسان ..سواء كان هذا الصراع عسكريا أو فكريا .. مذهبيا أو اجتماعيا .. سياسيا أو إرهابيا .. كان القوة الدافعة للتغيير .

فخلال الحربين العالميتين من القرن العشرين ، كسبت الانسانية الطائرة والصاروخ والدبابة والغواصة والقنبلة الذرية وما تبعها من تطورات تكنولوجية وحياتية .

ومع الحرب الباردة تطورت أساليب الكشف عن بعد والاتصال ، والنقل الفضائى وتداول المعلومات .

الصراع على إمتلاك السوق أدى الى تطوير أساليب الادارة وخفض الهالك والسباق لإنتاج الأفضل والأرخص ..

نحن اليوم نقف مذهولين أمام التطورات اليومية لأساليب تداول المعلومات وبثها من خلال الانترنت أو شاشات التليفونات المحمولة ، من الأقمار الصناعية ومراكز الفضائيات .

ترتيبا على ذلك الصراع المستمر الدائم الذى خاضه اليشر ، منذ تحولهم عن جمع الثمار والحشائش والجذور ، ما هو موقفنا علي أرض الكنانة اليوم !!
وما مقدار مساهماتنا فى هذا الكم الهائل من الابتكارات والاختراعات والانظمة المتطورة التى تسعى الى ترقية الانسان والمحافظة على البيئة !!
الجواب وبكل فخر " لا شئ " لقد أصبحنا عالة على البشرية بعد أن أمنا لأنفسنا فلسفة حياة تدعو الى السكون والاستقرار.

نحن نفكر بنفس أسلوب الأجداد منذ ألفي سنة ، ويحكمنا حكما مركزيا .. كما حكمنا منذ أربعة الاف سنة إبن إله مقدس ، لا يأتيه الباطل عن يمينه أو يسارة ، نحافظ عليه حيا أو ميتا ، فندفنه فى مزارات شامخة كالأهرامات .

نحن نعيش فى غيبوبة صنعها الكهنة من خلال الفضائيات والأرضيات وأماكن العبادة .

نحن مشغولون بلقمة العيش وكوب ماء نظيف ،وسكن يضم الزوجة والأولاد الذين لا نضمن لهم أى مستقبل
لقد غاب الصراع عنا إلا إذا كان أمام المخابز لشراء رغيف خبز مدعمّ ، أو فى سباق العربات الجنونى اليومى فى شوارع القاهرة ، أو داخل أتوبيس عام من أجل موضع قدم .

لقد أصبحت إحتياجاتنا بدائية فتوارت القمم عن الأنظار ، لا تحقيق ذات.. لا إبتكار لا اختراع ، لا تغيير ،لا كسر للمألوف الذى في رايهم يتسبب فى ضلالة التفكير.

المجتمعات الساكنة إندثرت على مر التاريخ ولم يعد لها وجود ، أما تلك التى غالبت الدوامة وخرجت من أسرها ، فلقد كان عليها أن تدفع الثمن ، وكان غاليا .. دماء آلاف الثوار والشهداء الذين رفضوا الواقع وأصروا على التغيير .. عبيد روما ، رعاع فرنسا ، بلاشفة روسيا ، ميليشيات ماو تسى تونج ، جنود إبراهام لينكولن .

أما فى زمن تداول المعلومات بعد أن أصبح العالم قرية اليكترونية صغيرة ، فإن الثمن الذى على الشعوب المتخلفة دفعه ، هو التعلم من الأكثر تقدما .
هكذا أعادت اليابان وتركيا وصل أنفسهما بالعالم الجديد واستطاعت دول جنوب شرق آسيا أن يكون لها وزنا بالسوق .

التعلم كان سلاح الهند ، الذى أوصلها الى الديموقراطية ، فاحترام حقوق الانسان وازدهاره ، وحماها من لعنة عدم قبول الآخر ومطاردته واغتياله بالمجاهدين او النسافين

العلم هو المفتاح السحرى للمعاصرة ، علم مبنى على احترام الآخر وحقوقه ، والتكامل مع كفاح البشر الحضارى .

علم يكشف المستور عن أسباب التخلف والنكوص ، ويقدم العبر والدروس من الهزائم والاخفاقات ، ويصحح ترتيب الأولويات التي ليس منها بناء القصور و المدن ذات الحدائق الغناء .
علم يعتمد على الحقائق ويؤدى الى عقد اجتماعى عصرى ينتج دستورا وقانونا ، يعلى من قيمة الانسان وحريته وكفاحه

الأمم التى سبقتنا على درب التقدم ، فصلت الدين عن الدولة كأسلوب حياة ،ورفعت من قيمة الحرية والاخاء والمساواة ، وحددت مهام العسكر بالحفاظ على سلامة الوطن ضمن خطة استراتيجية يضعها سياسيون

فى الدول المتقدمة يصبح إتقان العمل دينا جديدا.. وصندوق الانتخابات الصحيح هو الفيصل ، والناتج القومى المزدهر هو الحافظ من نفوذ القوى العظمى.. و العدل تاج علي الرؤوس .

على شعبنا إذا أراد ألا يندثر ، أن يتعلم كيف ينتج.. وكيف يتقن ما ينتج ليكفى طعامه ومسكنه وملبسه ، وأن يسمح له عمله بعائد يجعله يعيش فى مستوى محترم مؤمن ، اى تحقيبق كل ما فشل فى إنجازه ضباط يوليو ، فالانسان المساق بالعصا والسكين لا ينتج .