محمد حسين يونس
تهنا لمدة قرن .. لا نعرف .. متي سنخرج من هذه المتاهه .. مع مطلع القرن العشرين كان العدو واضحا .. جنود مدججين بالسلاح .؟. و حاكم أجنبي في قصر الدوبارة .. يلعب بالملوك و رؤساء الوزارات ..و الشعب

و في نهايات القرن كان سبب التخلف أيضا واضح .. تجريف لثرواتنا .. من خلال حروب أدمنا فيها تدمير أسلحتنا وخسارتها .. (48 ، 56 ، اليمن ، 67 و 73 ) حروب إستنزفت طاقتنا و عطلت نمونا .. و بعدت بنا عن قواعد بناء دولة معاصرة ( الديموقراطية ، محاسبة الشعب للمسئولين ، إستقلال القضاء وتأمين الحرية الشخصية للمواطن ) .

قرن من التوهان .. نسير خلف قيادات من الهواة .. تدور بنا و تلف .. ثم تعود لنقطة البداية .. فهي غيرمؤهلة أو مدربة سياسيا و لم تجرب إلا فينا ...و لم تخاطر إلا بحاضرنا ومستقبلنا .. و لم تعمل تحت الضغط إلا و تنهار و تختار المسار الصعب و لا تتقن إلا حشد الإعلام و تدبيج القصائد و إنشاد المدائح التي تحول الهزيمة إلي إنتصار .

كنا نأمل حول 1919 أن نخرج الغاصب المحتل و نتقدم لنصبح معاصرين .. و لكننا رغم كل التجارب التي عركتنا خلال هذا القرن .. و الصراعات و الثورات .. لا زلنا لم نبرح نقطة البداية ( نريد أن نستقل في قرارنا عن الكفيل .. و نصبح أمة من أمم المنظومة الحديثة )

وجه نظرك أينما تريد ... فستجد أن الأكثر تقدما دولا تعيش فيها شعوب إكتسبت رفاهيتها و كينونتها من خلال العمل .. علي العكس الأخرى المتعثرة .

العلم و العمل .. هما الطريق للرفاهية .. والتوزيع العادل لعائد الإنتاج هو مفتاح الإزدهار و التقدم .. تلك القياسات عند تطبيقها علينا تجعل الفارق متسع بين المعاصرين أبناء القرن الحادى و العشرين و الذين تخلفوا مثلنا عن الركب .

في النظم الإشتراكية شعوب تنتج إحتياجاتها و تفيض .. في الدول ذات الأسواق المفتوحة .. شعوب تنتج إحتياجاتها .. و تفيض .. و في الدول النامية غير المتعثرة شعوب تنتج إحتياجاتها و تفيض .. و الجميع يمثلون عناصر سوق عالمي لا يحترم و لا يخدم إلا من ينتجون سلعا يقبل عليها الأخرون ... و نحن نبني القصور و مدن الأشباح و نشق الطرق التي تنهار ..و نرفع الكبارى المكلفة .. و نترك أغلب الناس تئن من العوز و الإحتياج .

مشكلة الشعوب المتعثرة تتركز في حكامها .. فهم إما كسالي متلافين يتصرفون في ثروة بلادهم تصرف الوارث النزق الذى يفرتك ثروة (المرحوم) .. أو بإسلوب البلطجي الذى يبتز الناس و يأخذ ما بيدهم قهرا .. و في الحالتين (المسيطر ) لا يعمل و المستغل يعمل كثيرا و لكن إما بإسلوب بدائي غير منتج .. أو بنزح ناتج عملة في آلة الإستغلال الرهيبة .

أن تعيش فى وطن متخلف فهذا قدر ميلادك الذى لا دخل لك بحدوثه ، فإذا ما وعيت لمدى تخلفه وقررت ألا تستسلم لواقع متردى ، أصبح عليك ان تختار بين أحد دربين لتسلك ، إما ان تغادره لبيئة أفضل كما كان يحدث دوما ( قبل أن يصبح هناك حدودا وقوات امن ومطارات وموانئ وتصاريح دخول وخروج ) حين شهدت البشرية هجرات جماعية وفردية لقوم ضاقت بهم سبل الحياة ، فرحلوا سلما او حربا الى بيئة أفضل.

أو ان تسعى لحشد قومك لتخليص هذا الوطن من عوامل التخلف ، وقد تنجح كما الأبطال أو تفشل فتسجن أوتقتل مع العصاة والمذنبين .

المحرك الأساسى الذى يدع الانسان لاتخاذ أحد الطريقين كان دائما الوعى بالمأساة
فالانسان البدائى ، كان يتحرك عندما يفتقد لمقومات الحياة الاساسية ( الماء والطعام ) فيهاجر من بيئة ضنينة الى أخرى معطاءة ، ثم عندما عرف البشر تعدد الديانات والمذاهب كان الاضطهاد السبب لهجر الوطن ( أغلب المهاجرين لأمريكا وأستراليا هاجروا هربا من الاضطهاد المذهبى ) وفى مرحلة أكثر تقدما ، كان عدم تحقيق الذات دافعا كافيا لأن يلجأ البعض الى السوق الذى يستوعب علمه او فنه او حرفته او لبيئة يتوافق معها .

وادى النيل ( كيميت مصر ) كان منذ نهاية العصر المطير منطقة جذب لسكان الأقاليم المجاورة المجدبة ،فاتجهوا اليه مهاجرين أو غزاة ، من جميع الاتجاهات الجغرافية ( شرق غرب جنوب شمال ) وكان الغريب يحظى بفرصة متساوية تسمح له أن يعيش ويساهم فى النمو وتخصيب التنوع الحضارى الذى أكسب الوطن حيوية ، إنعكست على إنجازاته التاريخية .

فطالب الرزق كان يجد ضالته فى الكيان الاقتصادى متعدد الوجه الذى أنشأه المصرى منذ زمن البداية ،ومن هرب من الاضطهاد كان يجد وطنا بديلا متسامحا، ومرونة فى استيعاب الآخر واحترام عقيدته ، فإذا ما كان يسعى لتحقيق ذاته ، كان الترحاب غير المحدود يؤجج من قبس إبداعه ، سواء كان هذا فى مجال العلم او الفن أو تقديم الجديد لتطوير الزراعة والحرف .

( كيميت مصر) كانت جنة الموهوبين وقبلة المهاجرين ووطن الفرص السانحة ، لكل من يفد اليها مهاجرا أو غازيا ،وكان المصرى دائما ما يستوعب بضاعة الغرباء ويعيد إنتاجها وصياغتها ، لتمتزج فى نسيج واحد ، يميز تيار حضارته الممتد لآلاف السنين .

إنتاج المصرى لمفردات حضارته ، إستمر طالما كان محافظا ( كنظام وأفراد ) على حيويته ومرونة استيعابه للآخر واستمرار كون الوادى منطقة جذب سكانى يتم فيها التفاعل بين الوافد والمستوطن لإنتاج الأحدث والأكثر تقدما ... حتى ذلك الزمن ( منذ نصف قرن ) عندما تحول لمركز طرد لسكانه.

فالريف المصرى لم يعد صالحا لكسب الرزق ، وضاق بفلاحيه الذين توالت هجرتهم الى المدن الرئيسية ، هاجرين قراهم لتزدحم بهم العاصمة ، عمالا وبوابين وشحاتين وكناسين ومتعلمين وفنانين ومهنيين وضباط وقضاة وحكام ومحكومين .

غزو تسبب فى صعوبة الحياة فى المدينة ، ليصبح الأمل والهدف لكل من امتلك حرفة أو مهارة او علم ، أن يهرب ببضاعته الى الخارج لتتحول مصر من منطقة جذب الى منطقة طرد لأبناءها ولنفس الأسباب، ضيق للرزق بين سكانها فهاجروا الى دول النفط والبترودولار ،جمود مذهبى معوق فهربوا الى أوروبا ، سقف طموح منخفض فاستوطنوا أمريكا واستراليا وكندا .

الفقر وسوء التخطيط والتخبط أدى الى علاقة لا إنسانية حولت المصرى المتحضر الى جماعات متنافرة متخلفة لا تعمل لا تستهلك ترضى بالدون ، فتسكن فى الجحور وتشرب مياه ملوثة وتأكل خضروات مروية بالمجارى ، وتعيش عالة على شعوب العالم المنتجة للقمح والغذاء ، وتستسلم لحكم يسوقها بقوانين الطوارئ على مدى نصف قرن .

البلاء أصبح واقعا لا يناقش ، والحضيض أصبح مكانا طبيعيا ، بعد ان استولى الجمود ( عكس المرونة ) على مسار الأبناء والأحفاد ، وافتقد المصرى القدرة على التوافق مع عالم يتقدم بسرعة رهيبة ولا يهتم بمن لا يجاريه فمصيره الاندثار.

الوعى بالتخلف الذى هو حجر الزاوية لبداية التغيير ، مدفون تحت طبقات متراكمة من الادعاء بأنه ليس فى الامكان أفضل مما كان ، وان هذا الشعب يعيش أزهى أيام تاريخه فى ظل نظام حكم ثورى .( نكمل حديثنا غدا ))