مدحت بشاي
Medhatbe9@gmail.com


لاشك أن تفشي ظاهرة التعصب باتت تٌجذر النزعة الإقصائية التي تحمل في طياتها مفهوم الإرهاب الفكري، الذي لا يعتد بحرية التعبير والرأي المخالف وإنما يستعمل العنف عوضا عن الحوار للإقناع مما يؤسس للنزعة الإقصائية بما هو ترسيخ لمعاني الإطلاقية والنموذجية ، أي الإقرار بتفاضلية الدين الواحد.

قي مجال بحث أهل العلم في العالم لمسببات تزايد ظاهرة التعصب ، نشرت مجلة "ساينس دايركت" العلمية مؤخرًا دراسة تكشف عما اعتبرته "السبب الحقيقي" لانتشار ظاهرة "التعصب الديني" حول العالم. وأظهرت نتائجها أن زيادة نسب " الأصولية الدينية " أو التعصب والتطرف الديني لدى أي شخص، يرجع إلى خلل "عضوي" في منطقة معينة في الدماغ.

وأظهرت الدراسة ، التي أعدها "جوردان جرافمان، من جامعة "نورث ويسترن" الأمريكية أن المعتقدات الإنسانية والمعتقدات الدينية، بطبيعة الحال، هي جزء من المخزون المعرفي والاجتماعي، الذي يميز البشر عن الكائنات الأخرى، وتتأثر العمليات الإدراكية والاجتماعية بتطور مناطق معينة في الدماغ البشري.

وحسب وكالة سبوتنيك، عكف جرافمان، وفريقه البحثي على فحص المئات من المحاربين القدماء في فيتنام، وأظهرت أنهم يعانون من خلل في جزء من الدماغ، يعرف باسم "قشرة الفص الجبهي البطني"، ووجد أن أولئك المحاربين يعانون من مستويات عالية من "التعصب الديني" مقارنة بالآخرين الذين لا يعانون من نفس الخلل.

وتشير الدراسة إلى أن اختلاف طبيعة المعتقدات الدينية تحكمه مناطق معينة في الدماغ ، وتحديدا الأجزاء الأمامية من الدماغ البشري.ويعتقد أن "قشرة الفص الجبهي البطني"، تقع في الفص الأمامي من الدماغ، وتعد مركزا حيويا لأنظمة المعتقدات.

ويتسبب الخلل في "قشرة الفص الجبهي البطني" إلى زيادة نسب الأصولية الدينية، لأنه يتسبب في تقليل نسب المرونة المعرفية، ما يعني أن الشخص يصبح غير قادر على تحديث معتقداته في ضوء أي أدلة جديدة، بجانب خفض أي سمة شخصية تجاه أي انفتاح متوقع.

وتضمن البحث فحص 119 من قدامى المحاربين، الذين يعانون من إصابات دماغية، و30 من قدامي محاربي فيتنام، الذين ليس لديهم أي تاريخ لأي إصابات دماغية. وقال جرافمان: "عززت المعتقدات سلوكياتنا لآلاف السنين، وساعدت على تطور أدمغتنا، وتطوير عملياتنا الإدراكية والاجتماعية، وعدم الانفتاح على أي أفكار جديدة سيؤثر على شخصيتك أو شكل تصرفك" ، وتابع "المعتقدات الدينية وغيرها يمكن دراستها بشكل انتقائي مستقل عن باقي العمليات المعرفية والاجتماعية، لأن اعتمادها يكون على وظائف الدماغ الأخرى، وهو ما أعتقد أنه سيكون مجالا مهما للبحث في العقود المقبلة "..

يقول المفكر والأب الراهب " متى المسكين " أن المسئول الأول عن التعصب الديني هم القادة والمعلمون الذين لا يراعون المستوى النفسي للمتدين والذين يلقنونه الحقائق الإيمانية دون نقاش ، وهذه الصورة الصارمة في التعليم تظل هي رائدهم ومثلهم الأعلى مع أن المسيح لم يعلّم هكذا ، بل كان يستخدم الحوار في تعليمه حتى مع أعدائه فكان يبني سامعيه ، ويفتح أمامهم آفاق المعرفة ، ويكشف لهم الحق المخفي وراء كل مثل أو تشبيه أو معجزة .ولكن يلزم أن نعترف بالحقيقة المرة وهي أن معلمي الدين كثيرًا ما ينقصهم المعرفة والحق وبالتالي تنقصهم " حرية مجد أولاد الله " ( رو 8 : 21 ) ، لذلك يخرج تعليمهم أكثر شبهًا بتعليم الكتبة والفريسيين منه إلى المسيح .

و ظاهرة التعصب وتورط بعض رجال الدين في إذكاء وتجذير مفاهيم التشدد والتعصب والتطرف ، هي ظاهرة تعاني من تبعاتها المجتمعات في كل الدنيا وعلى مدى السنين .. فمنذ ما يقارب القرن من الزمان نشرت مجلة المصور في عددها رقم 94 في شهر أغسطس 1926 ، وتحت عنوان " محاربة رجال الدين " أن كل يوم يحمل إلينا نبأ جديد عن المساعي التي تبذلها الحكومات لمحاربة رجال الدين والقضاء على نفوذهم ، فقد طالعنا أخيرًا في إحدى الجرائد الأوروبية مقالاً مطولاً عن حالة تركيا الداخلية وموقف حكومتها إزاء رجال الدين ، وطالعنا كذلك في جريدة أميركية نبذة عن الحالة في بلاد المكسيك حيث تدرس الحكومة مشروعًا لقانون يضع حدًا لسلطة رجال الدين ..

ومن هذه النظم الجديدة أن الكهنة الذين يحرضون الشعب على العصيان بالرسائل أو الخطب في الكنائس يجازون بالحبس سنة ويغرمون ، ولا يجوز لكاهن من أي مذهب أن يعقد اجتماعًا سريًا أو علنيًا أو أن ينشر دعاية دينية أو ينتقد دستور الحكومة .. ومن يخالف يُعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات .. وستُلغى كل الدروس الدينية من الكليات ولا تعترف الحكومة بالألقاب التي تمنحها هذه الكليات على هذه الصورة .
وستمنع تأليف الجمعيات السياسية التي لأسمائها علاقة بالدين ، كما أنها ستمنع عقد الاجتماعات السياسية في الكنائس ، والاحتفالات الدينية خارج الكنائس .. ولناظر الداخلية الحق في إقفال كل كنيسة لا تتقيد بهذه القوانين..إلى هنا انتهى الاقتباس مما نشر في مجلة " المصور " ، الذي قد يصيبنا بالإحباط لحالة توطن " التعصب " وتعذر معالجته ..

ويجدثنا الأب الراهب المفكر " متى المسكين " حول ما أطلق عليه " تدريس التعصب " و يقول أنه يكفي معرفة القارئ بالمبدأ الذي يقول به بعض المعلمين " لا تضع يدك إلا في يد من يؤمن بمبادئك " ! ليأخذ صورة نسبية ليكفيه التوجيه في التعليم الديني عند البعض بهذا المبدأ ، وطبعًا يقصد الرائد أو المعلم أن يمنع طالب الدين من الاختلاط لا بأصحاب الأديان الأخرى فقط بل يتعداها إلى منع الاختلاط أو المصادقة للذين هم من دينه أيضًا بل والذين من عقيدته وإنما يكونون مختلفين فقط في المبادئ !

إنها بالفعل كارثة أن يلقن الشاب أو الصبي روح العزلة والانفصال والانكماش بهذه الصورة أمر خطير على المواطن ، إن مثل هذا الاتجاه في التعليم الديني سيجعله حتمًا شابًا منعزلاً منفصلاً غير متجاوب مع مجتمعه وشعبه وبلده يأنف من زملائه ويتعالى على مرؤوسيه .
نقلا عن الدستور