سحر الجعارة
حين زرت لبنان، لأول مرة، ضمن وفد مصرى لنصرة «قانا»، عقب عملية «عناقيد الغضب» التى شنتها إسرائيل على لبنان لتدمير تجهيزات لحزب الله ومواقع للجيش السورى ومحاصرة الموانئ.. كانت كلمة «المقاومة اللبنانية» تعنى بالنسبة لنا الكثير، وكانت كلمات الأمين العام لحزب الله «حسن نصر الله» تلهب حماس الشعوب العربية، وتحرض الناس على مقاومة إسرائيل فى كل مكان ولو بالاعتداء على سفاراتها.. ولكن ما بين عام 1996 وعام 2019 تغير الكثير!.

فى تلك الزيارة الشعبية التى ضمت العديد من الكتاب والسياسيين، كان من بروتوكول الترحيب بنا أن يستقبلنا ثلاثة رؤساء سابقون: «إلياس الهراوى» رئيس الجمهورية اللبنانية، و«نبيه برى» رئيس مجلس النواب، والمرحوم «رفيق الحريرى» رئيس الوزراء.. فكان من السهل أن تلمح أن اتفاق «الطائف» الذى أنهى الحرب الأهلية اللبنانية كرس الطائفية ولم يقض عليها.. وأن الفتنة نائمة تنتظر لحظة خلاف ليصرخوا: «تحسس مسدسك»!.

خلال الفترة الماضية، تحول «حزب الله» من «حركة مقاومة» نجحت فى إجبار إسرائيل على الانسحاب من جنب لبنان إلى اكتساب شرعية شعبية وطنية تدعى تمثيل الشعب اللبنانى فى مقاومة الاحتلال، وشرعية دولية مستمدة من قوانين الأمم المتحدة التى تعطى الشعوب المحتلة الحق فى المقاومة المسلحة، وسمح له اتفاق «الطائف» الذى سحب السلاح من جميع الميليشيات بالاحتفاظ بالسلاح!.

لكن ميليشيات «حزب الله» تحولت إلى «ميليشيات إرهابية»، وإلى «دولة داخل الدولة» لا تمثل إلا «إيران».. وأخذت تنشر الفزع والرعب فى الدول العربية.. وأدينت فى عملية اقتحام السجون المصرية التى تمت على هامش ثورة 25 يناير.

تبدل وجه المقاومة.. «سقط القناع» باجتياح ميليشيات «نصر الله» لبيروت عام 2008، وحين عرقل اختيار رئيس للجمهورية لما يقرب من عامين بعدم حضور نوابه جلسات انتخاب الرئيس.. سقط باتهام بعض عناصره فى اغتيال «رفيق الحريرى» ومحاكمتهم دوليًّا.. أصبح «نصر الله» خنجرًا مسمومًا فى قلب لبنان والعالم العربى.

وحين نزل الشعب اللبنانى يحتج على الفساد وتمرد على نظام الضرائب الظالم الذى بلغ ذروته بتحميل الشعب أعباء مالية جديدة مقابل استخدامهم الـ«واتس آب»، لتمويل الصفقات التى تتم فى قطاع الاتصالات، وخرجت تظاهرات الغضب فى الشوارع.. ظهر «نصر الله» ليؤكد تمسكه ببقاء الحكومة التى يطالب الشعب بإقالتها، لأن له فيها ثلاثة وزراء إلى جانب حلفائه.. وهدد المتظاهرين بنزول أنصاره إلى الشارع، فرد عليه نحو مليون لبنانى بالنزول إلى الشوارع، لتضم التظاهرات فى بيروت وحدها - لحظة كتابة المقال - أكثر من مليون ونصف شاب!.

لقد كفر اللبنانيون بكل النخب وقادة الأحزاب والطوائف ونظام المحاصصات القائم منذ عقود طويلة.. لكن «نصر الله» حين أراد تبرئة ذمته المالية تعرّى تماما أمام الجميع وقال: (موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وصواريخه من الجمهورية الإسلامية فى إيران)!!.

وتحدى أمين الميليشيا العالم الذى فرض حظرًا على أمواله قائلا: (ومالنا المقرر لنا يصل إلينا وليس عن طريق المصارف، وكما وصلت إلينا صواريخنا التى نهدد بها إسرائيل يصل مالنا إلينا)!.

إنه - إذًا - أمام أمين ميليشيا إرهابية تتحدى القانون الدولى، ولو بعزل القطاع المصرفى اللبنانى عن سوق المال العالمية، إذا لم ينفذ القوانين المطلوبة لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب خاصة الأمريكية منها.. ولأنه طرف فى معادلة الحكم، أصر«نصر الله» على بقاء الحكومة، لأنه يعلم أن تشكيل حكومة جديدة مهمة شبه مستحيلة.

أنا لا أخشى على لبنان من انتفاضة شعبه، بل يفزعنى تخيل مشهد ميليشيا «نصر الله» وحركة «أمل» فى الشارع اللبنانى.. لبنان المحاصر بإسرائيل، وسوريا على حدوده، وفى قلبه سيف الرعب الإيرانى الذى يمكنه تلوين لبنان بلون الدم فى ساعات معدودة.

هل أبدو متشائمة فى تقييم المشهد اللبنانى؟.. ربما، لكن حين يكون الفساد من أمامك والإرهاب من خلفك وحولك، وحين يخلع زعيم الإرهاب عباءته لحماية الفساد، يصبح الطريق مسدودًا أمام الشعب الثائر.
نقلا عن المصرى اليوم