تأليف - روماني صبري 
كانت الساعة تعدت الواحدة بعد منتصف الليل، حتى راحت الأمطار تضرب الأرض وتتكسر على نافذة "الفريد" الغارق في نوم عميق ،.. لم تفلح هذه الأجواء الشتوية القاسية في سرقته من النوم ، بل فعلها كابوس خطير ، داخل هذا الحي الهادئ الذي لطالما عانى الفقر من هؤلاء الأشخاص أصحاب الفكر والذي قال عنهم الفريد في روايته الأخيرة الذي أنهى بها مسيرته في عالم الكتابة : كلما حلوا جاءوا بالوهم وزرعوا الأسئلة في نفوس غيرهم ، مضيفا على لسان بطلها :" ما جعل الأجواء تظفر بارتباك شديد وتخلو من الغبطة ..  لذلك لن تجد الجميلة تلك التي تخلت عني لفظاظتي وقسوتي وقررت العودة بعدما أنطفأ داخلي كل شيء ونزلت بروحي الوحشة  تفسير ما يحدث فالجميع يبحثون مثلها .. بالحق كانت جميلة تشبه تلك الآية التي تحدثت عن محبة الأعداء في الكتاب المقدس .. لذلك على كل قذر تحمل تبعات الكيفية التي يعيش بها حياته وبتعصب لها أشد التعصب .. الأمر دائما يسير هكذا ، وهتلر لم يرغمهم على القتل بل أيقظ شهوته داخلهم .
 
استيقظ الفريد، وإذ بصوت صفارات إنذار سيارة شرطة يمتزج مع صوت ضجيج بشري ، ويسكن أذنه ، فراح يذرع الغرفة جيئة وذهابا ليقرر فتح النافذة أم يستأنف النوم ، وقلبه لا زال يخفق بشدة اثر الكابوس ، تناول نظارته من فوق الوسادة، وشرع في تنظفيها بقميصه الذي يرتديه أولا ... سال الدمع من عينه وهو ويقيس نبضات قلبه ليجدها تعدت المعدل الطبيعي بكثير "160 نبضة في الدقيقة" .. فتح النافذة الرجل ذو الثالثة والأربعون أخيرا ، لتبصر عيناه سيارة شرطة تأتي مندفعة من الشارع الكبير المقابل للكنيسة التي اندلعت بها النيران منذ أيام لتلحق بها أشد الضرر، وتصطف بجوار سيارة إسعاف .. نزلت قوات الشرطة على الفور وداهمت أحدى المنازل ، وبعد مرور دقائق تكاد تذكر ! ، خرج رجال الشرطة من المنزل المذكور محكمين قبضتهم على شاب في نهاية العشرينات ، حليق الشعر ، يرتدي ملابس عصرية ملطخة بالدماء ، أخذ أحد الجيران يعلق على الحادثة ، رجل في الخمسين ، يتدلى كرشه منه كسلسلة ، دميم الطباع ، قائلا : ابن الحقير قتل والده في ساعة متأخرة .
 
جر ضباط الشرطة القاتل الشاب ، صوب سيارتهم التي كانت تبعد عن منزله بضعة أمتار.. حاول الشاب التمسك بالأرض بقدميه حتى يصارع قوتهم والتي ظهرت عليهم وهم يقتدوه ، في وقت اشتدت فيه الأمطار الهطول ، لكن باءت محاولته بالفشل ، إزاء الوحل الذي جعل قدميه تنزلقان ، فبدى كذبابة تحاول أن تسيطر شيء عبر طنينها.. صرخ الشاب ذارفا الدمع متجولا بنظره على جميع المارة وسكان المنطقة الذين تجمهروا لمتابعة تبعات ما يحدث، أما الشاب فاخذ يقول وهو يهز رأسه لينفض مياه الأمطار من على رأسه :" فليعلم الله إنني لست هذا الشاب الذي يقتل أبيه .. لقد رباني على احترامه ما جعلني أكن له كل الاحترام ، بالأمس ذرعت هذا الشارع جيئة وذهابا وأنا أفكر وأقول ما هي الهدية التي ستجعل هذا الحقير يحبني ويتوقف عن معاداة الناس؟ّ!.
 
: لماذا لا استطيع التنفس ؟! ولماذا طفح كل هذا الاكتئاب داخلي .. أوقفوا الأمطار اللعينة حتى أتنفس .. دقات قلبي تتسارع بشدة على غير العادة .. منذ يومان خضعت لتخطيط قلب كهربائي واخبرني الطبيب أن الأمور أكثر من رائعة.
 
ادخل الضباط القاتل داخل السيارة، وهو لا زال يستأنف حديثة :" عضلة القلب كانت على ما يرام كأنها لطفل حديث الولادة .. لكن ما فائدة القلب السليم إذا كنت سأواجه تهم القتل ثم الإعدام .. كل ما اعرفه أن أبي كان قاسيا وأنانيا جدا." 
 
 
أغلق الفريد نافذة منزله، وكانت سيارة الشرطة تختفي عن أنظار الموجودين بالشارع .. جلس على سريره واقسم لله قائلا هو الكاتب الذي اعتزل الكتابة:" من المستحيل تحويل كل ما رايته إلى عمل أدبي جديد، كروايتي الأخيرة التي ألحقت بحياتي الهزائم.. سأنتقل إلى "فيلتي" ، لن أعود إلى منزل والدي ستصوم قدمي عن هذا الحي العشوائي للأبد ، وملعونة كل الذكريات سأحاول نسيانها قدر ما استطعت .. غدا سأذهب إلى طبيبه العيون واخضع لكشف نظر جديد، حتى يتعافى نظري .. فقط سأصلي إلى الرب حتى أنام .
 
وقف الفريد أمام مرآة غرفته التي عكست صورة المسيح وشرع في الصلاة قائلا :" هذا القاتل الشاب لتتغمده برحمتك، يبدو انه يعاني مثلي عندما اعتزلت الكتابة الوعظية، اثر حادث هذا الشاب .. لا أتذكر اسمه، ولا ادري لماذا باتت ذاكرتي ضعيفة هكذا ! .. يقول الكتاب : أن لم تقع حبة الحنطة في الأرض تموت تبقى بمفردها تعاني الوحدة ، ولكت أن ماتت تأتي بثمر كثير.. يكفي هذا.. سأذهب للنوم ." 
 
 
منذ ست سنوات هزت حادثة قتل المدينة، عندما قرر احد البلهاء قتل أحدهم بطريقة قذرة انتقاما لوالده الذي فارق الحياة مذبوحا على يد شريكه في تجارة السيارات ، اثر مشادات مجهولة وقعت بينهما، أخذ الابن سلاحا ناريا وذهب إلى نجل القاتل برفقه 10 رجال أشداء، ومن خلال إحدى المكائد وجد الابن نفسه مقيدا هو وزوجته وأطفاله الثلاثة داخل أحدى الشقق.. اقترب ابن القتيل من نجل القاتل واقترح عليه : أن يقتله هو ويترك زوجته وأطفاله، أم يقتل زوجته ويتركه هو وأطفاله.. دون أي تفكير يذكر.. هز الزوج رأسه مشيرا إلى زوجته وهو يبكي ، وبسرعة البرق انطلقت رصاصة من احد الرجال لتستقر في رأس زوجته التي عانت الوحشة والصدمة جراء كل ذلك ، أما الزوج فعاش بعدها حزينا موصوما بوصمة الجبن والعار، حتى قرر الانتحار بعد الحادثة بعام واحد وأخذ معه أطفاله الثلاثة، لكنه حرص على ترك رسالة قال فيها :" زوجتي كانت تحبني أكثر من أي شيء، لم تهتم بالأطفال مثل باقي الأمهات والرب وحده يعلم صحة ما أقول .. لم أكن يوما جبانا ، كنت أريد أن أبقى مع الأطفال، لطالما خشيت على وجدوهم معها، لكن كنت أخشى القيل والقال.. نعم كانت تحبني وتحب الجنس أكثر من أي شيء ، ووالدتها تشهد بذلك." 
   
بعدها أجرت المباحث تحقيقات مع والدة الزوجة القتيلة ضحية والد زوجها، وأقرت الأم بصحة كل ما قاله الزوج .. كانت تحقيقات تخلو من هدف ضبط الجاني وذلك لأنه ليس هناك قضية غير واضحة ، ورغم اعترافات الأم إلا أن المجتمع إصر أن الزوج جبان وضحى بزوجته ليحتفظ برأسه .. لم تغير الحادثة وتبعاتها أبطالها فقط ، بل جرت الفريد أشهر كاتب روايات وعظية في السابق معها صوب هذا الطريق المؤلم، الذي اخذ الموضوع على محمل الجد وشرع في كتابة روايته الأخيرة التي افتقدت أسلوبه القديم ولأول مرة يقف في صف الإنسان، ليتهمه كل كارهين الزوج بـ"عدو المسيح"، لم يقف الأمر إلى هذا الحد ، حيث جعلوا منه موضوعا للسخرية والنقد قائلين :
 
الكاتب المؤمن تنصل من المسيح بتصديقه رسالة الزوج 
الكتاب الأوغاد دائما ما يقفون في صف القتلى 
 
كيف يستطيع السير علنا هذا الأحمق .. يا له من حقير لن ينعم بالاستقرار بعد الآن 
المؤلف دائما ما وقف في صف الجبناء والخطاة .
 
في اليوم التالي من حادثة قتل الشاب لوالده، عثر أحد الأولاد على نسخة من رواية الفريد الأخيرة الذي أسماها "سقوط أخر عدو للمسيح"، والتي رغم ذلك حققت مبيعات خيالية، عكس جميع رواياته السابقة التي اعتمدت على الوعظ والإرشاد، وقف مذهولا كونها وقعت في يده، هو الذي كان اقسم لوالده المتدين انه لن يشتري هذه الرواية ولن يطلبها من أحد أصدقاءه ، تنفيذا لرغبته ، أما الآن فهو سيقرأها دون أن يحنث بقسمه .. عاد الولد ذو السابعة عشر إلى منزله وأوصد باب غرفته جيدا وراح يقلب في صفحاتها بعشوائية وكانت الصفحات كالتالي : 
 
: عدم غفران الإنسان لنفسه أثم عظيم لا يعلم عواقبه إلا الله .. فقط الإنسان الحنون العطوف على نفسه ما ينفك السلام عن روحه ، الرب طاهر يا صديقي ، صدقني أحدثك بما أؤمن به ، مناكدتك ومنكافتك للحياة لن تعجل بحل الأمر ، ثمة تجارب تعتري حياة البشر ولا تحل ، دعني أستشهد بأية من الكتاب "وقتها يقول الرب ابعدوا أيديكم عني .. أيديكم ملآنة دما " ، أنت أثم وقذر كما تقول كونك "كاتب" وضحيت بزوجتك من اجل أطفالك،.. لكن لازالت أمامك الفرصة .. الاستسلام شيء عظيم ، لا ريب فيه .. اعتنقت مفهوم الاستسلام ذات يوما ومن وقتها وصديقك يتغاضى عن كل شيء ، أتدري بالأمس قلت لزوجتي أريدك إلا تريديني أيضا ؟ ، ردت باقتضاب : نعم أريدك ، توقفت هنيهة واستأنفت تقول : حسنا لننتهي من الأمر .. كان أصبع الإبهام في يدها اليمنى يرتعش ، حينذاك قبلتها وقلت لها باسما : الأيام باقية يا زوجتي .. لنفعلها غدا لو كنت رائقة المزاج ... أتدري لو كنت الرجل الذي كنت عليه سابقا لما تركتها ، كنت سأظل أداعبها حتى تستسلم لرغبتي لا لرغبتها ..علينا أن نبين استسلامنا في أعينهم ، لندعه يستبد بهم ولا يبارحهم مثل الأمراض القذرة ، ليعلموا مقدار الحب والاحترام الذي نكنه لهم ، وأخيرا ليتغمدنا الرب برحمته ، في انتظار رسالتك .. المخلص صديقك ."
 
صفحة 15 
: يسوع يحب الأطفال ، يقول : لأني أنا معك لا أتركك ، تسير حياتك بكيفية طبيعية أن قدمت له توبة حقيقة ، أخذت حياتي إبعادا مخيفة عندما مات أبي ... نعم وقتها تركت الشيطان ينتزعني من نفسي، لا أنا استطعت هزيمته ولا هو استبد بروحي والتصق بي ... مثلما تقرأ على غلاف رواية : جميع حقوق هذا العمل محفوظة لدار فلان ... ، حتى نذرت روحي للرب العظيم، نعم أتذكر هذا اليوم جيدا .. وقتها خضعت لتحليل بول بعدما تكونت الحصوات بكليتي، انه عبء الجسد ، كلما تذكرت هذا اليوم أصاب بالانهيار العصبي رغم كل ذلك .. فقط اترك نفسك للرب ."
 
/ اهو الندم ؟ 
: ربما الغباء ... أتتذكر عندما وبختني وأشحت بوجهك عني ، فعل قاسي من البلادة نكران ذلك ، لكنه لم يؤذيني ... تناولت وجبتي المفضلة في العشاء واستمعت للحركة الأولى من سيمفونية "رخمانينوف" كعادتي ، ما الذي تغير وقتها ... في الحقيقة لا شيء."
 
واخد يستانف القراء 

  / دعني اضرب لك مثالا ، بالأمس أخبرتني أنها تحبني جدا
 
: نانسي زوجتك ؟ 
/ بالحق كانت هي ... لطالما لم أقابل حبها باستخفاف ، فقط الموت اللعين سيفصلني عنها ، الحياة ليست قاسية يا صديقي لا زالت نانسي تتمتع بصحة جيدة نركض خلف بعضنا بالقرب من سياج المنزل ، نمارس الجنس يوميا ، نطهو ، نقرأ الإنجيل ،... أنت تبغضني لنرجسيتي .. ، نانسي ما عاهدتها وسط وحشة الحياة على أن العالم قذر .. أقول وحشة الحياة وليست الحياة القذرة القاسية ، ثمة جرائم ترتكب باسم التكنولوجيا ، صدقتي يا صديق العمر أدور حول نفسي وامشي على رؤوس أصابعي كالمجنون ، نعم هذا ما افعله في الليل وليشهد على كلامي الله ، الذي أحبه وأكن له كل الاحترام رغم كل ما لحق بي من تجارب قاسية ."
 
 / استنادا إلى قوانين العالم ، أنت شخص راشد ، لم تبلغ من العمر الكثير ، شعر صدرك كثيف لم يستبد به اللون الأبيض كثيرا كما حل بي ، لم تحول القتلة إلى أبرياء كما تفعل الصحف الأوروبية ... فضلا عن عدم ارتكابك الجريمة الكبرى ، أنت نرجسي وهذا كل شيء ... وغد مثلي يعيش في الوحدة ، يرتكب فيها أبشع الجرائم ، أرى نفسي في قفص الاتهام ، هكذا احلم ."
 
  : قلت الآن في نفسي ، لقد استهل حديثه عن محبة الله لنا ! ... ، لماذا لا ينتهي الحديث البشري بشكل جيد يا صديقي ، اهو الغضب من يجعلنا نستشيط غيظا ، تفحص معي في العديد من الأشياء ، البراءة لا تؤدي إلى القتل ، حبا في المسيح ، كف عن كل ذلك ولتعلم أن صديقك يغش في لعب الورق .. لا شيء يجمل ذلك .. فليرحمنا الرب."
"تمت"