بقلم – روماني صبري 
في مدينة تورينو الايطالية، يوم الثالث من يناير عام  1889م، خرج الفيلسوف الألماني "فريديريك نيتشه" من المنزل رقم 6  إلى "كارلو ألبيرتو"، ربما ليأخذ نزهة، وربما ليمر على مكتب البريد حتى يستلم رسائله، وفي مكان ليس بعيدا عنه، أو هو بعيد في الحقيقة، يعاني سائق مركبة إيجار من حصانه العنيد، ورغم كل إلحاحه إلا أن الحصان يأبى أن يتحرك وعندئذ فإن السائق "جوزيبي كارلو إيتوري"  يفقد صبره ويخرج السوط ليجلده.
 
 يصل نيتشه إلى هذا المكان ويضع حدا لهذا المشهد الوحشي للسائق الذي كان يغلي من الغيظ في هذه الأثناء، ويقفز فجأة إلى العربة وبالرغم من مظهره القاسي فإن نيتشه يحيط رقبة الحصان بكلتا يديه ويأخذ بالبكاء.. يأخذه جاره إلى المنزل، حيث يستلقي لمدة يومين على الأريكة صامتا وهادئا، حتى يتمتم أخيرا بآخر كلماته :أماه.. ابنك أحمق"، عاش نيتشه بعد ذلك 10 سنوات أخرى مضطربا وهادئا في رعاية أمه وأخوته أما الحصان فإننا لا نعلم عنه شيئا .
 
يستهل المخرج المجري (بيلا تار)، فيلمه "حصان تورينو"، بهذه القصة الواقعية الإنسانية لنيتشه، على لسان راوي الفيلم باستخدام الـ voice over ( التعليق الصوتي) على خلفية سوداء ، وبعدها يأخذ أول مشهد في الفيلم المكون من 6 مشاهد فقط ! في الظهور.. تتلاشى الخلفية السوداء فنرى حصان يجر عربة يقودها سائق "كارو" عجوز عابس يرتدي معطف بسيط ، ويسير بعربته وسط عاصفة خطيرة يبدو منذ رؤيتها أنها تكرهه الإنسان، ورياح ما تنفك تزداد بإحدى الطرق التي باتت وأعرة جراء الهواء البارد وأوراق الشجر التي راحت تتطاير مع فضلات الأرض وتصطدم بوجه العجوز وحصانه .
 
يستبد الضيق بوجه العجوز وحصانه الذي أخذ يسير بامتعاض شديد، وكأنه زهد الحياة فجأة، ويعمل فقط لسد جوعه من خلال (التبن) الذي يحصل عليه مقابل جر عربة العجوز الغاضب.. لا ضوء للشمس يطفح على المكان ولا وجود لظلال كثيرة جراء ذلك ، فقط غموض شديد يستبد بالمشهد الأول ،.. قد يبدو للمتفرج خلال مشاهدته الأولى للفيلم إذا ربط القصة التي ذكرت في البداية بهذا المشهد ، أن سائق العربة سيهجم على الحصان ويحاول قتله حتى يخرج "نيتشه" وينقذ الموقف .. نعم نيتشه هذا الفيلسوف الذي لطالما وصف بالفجومي والعنصري فاقد الإحساس، سقط في نهاية حياته وهوى حزنا على حصان معذب ! ..استخدم "تار" الأسلوب الشاعري في تصوير مشاهد فيلمه الـ6 عن طريق حركة الكاميرا المتنقلة ، والثابتة ، وكذلك دورة التصوير الطويلة والتي تعرف  بالـ"Long take"، أي أن المشهد يخلو من (القطع) خلال تصويره، وهو الأسلوب الأصعب في تصوير الأفلام، لان أي خطأ داخل المشهد سيتطلب تصويره من بدايته مرة أخرى، لكن أكثر ما يميزه هو الملل الذي يتسبب فيه للمتفرجين، وليس في الأمر آثم لان حصان تورينو لا ينتسب للأفلام التجارية مع احترامي وحبي لها ، لكن من خلال هذا الأسلوب يستطيع المشاهد التعايش مع المشهد كأنه جزء من عالم الفيلم وأبطاله.    
 
بالفعل عشت مأساة أبطاله منذ المشهد الأول .. ربما يسأل المشاهد لماذا الحصان بهذا اليأس مثل صاحبه ؟! ، ولماذا يحاول مخرجه أن يجرفنا صوب طريق يجعلنا نصب الزيت على البنزين !.. هل تخلق الرتابة والروتين الجرائم أم تقود الإنسان لمحاولة تناسى كل شيء شيئا فشيئا ، ولماذا الطبيعة قاسية لهذا الحد ، وهل علينا التمسك بالإيمان للتصدي لكل هذا ، أسئلة كثيرة لا يجيب عليها (تار) بل يترك لك الأمر .
 
يصل العجوز إلى منزله المنعزل، فنرى ابنته الوحيدة تقف في انتظاره صامته والعاصفة تتلاعب بها وبجسدها النحيل فيتطاير شعرها ويلتف حول وجهها فيحجب عنها الرؤية، وأمام جبروت العاصفة وشدتها تبقى الفتاة صامتة وبدا عليها أنها تعاني هي الأخرى من (المرض) أو (الحقيقة ) التي أصابت نيتشه !.. ربما "انه ليس هناك جدوى من شيء .. أو الإيمان بالصمت كما يقول الكتاب المقدس أن في الصمت فضيلة"، أم أن العاصفة السبب في كل ذلك ، رغم أنها من الله !  .
 
تساعد الفتاة والدها في فصل الحصان عن العربة وإدخاله إلى الإسطبل ، وخلال ذلك لا يدور أي حديث بينهما كأنهما مصابين بالصمم ،..  هنا ندرك أن العجوز مصاب بشلل في يده اليمنى .. يدخل العجوز صاحب الوجه الحاد إلى المنزل برفقه ابنته فتساعده في خلع ملابسه وبعدها تتركه لينام،.. تذهب الفتاة وتتناول ثمرتين من البطاطس وتضعهما داخل قدر به ماء موضوع على سطح فرن بدائي ، - كما أتذكر – وتترك الطعام حتى ينضج .. تجلس بجوار النافذة تراقب العاصفة ، ولا يكشف تأملها الكثير لكن يستطيع المتفرج استخلاص ما يرضيه أو يتوافق مع قناعاته الدينية أو الفلسفية ، حتى أن حاول فك كل لقطة للوصول لماهيتها ربما سيجد أن الأمر بات محل عبث.
 
بهذه الكيفية الروتينية يعيش العجوز وابنته ، يأكلون البطاطس المسلوقة يوميا ، يتأملون العاصفة الغريبة التي ضربت قريتهم وألزمتهم المنزل، تساعد الفتاة والدها يوميا وكأنها إنسان إلي ، كل ذلك ساعد في طرح سؤال أنساني بعيدا عن الدين والأفكار الإلحادية وهو : لماذا ؟..  في المشهد الثاني (اليوم الثاني)، يرفض الحصان العمل ويمتنع عن تناول الطعام حتى المياه، وتشاركه الفتاة قراره في نهاية الفيلم ، ليقول لها والدها : ولكن علينا أن نأكل ! ، حتى يقرر هو الآخر التوقف عن تناول الطعام .
 
تتصاعد المأساة ويكشف (تار) كيف تحترق الروح البشرية في فيلمه الخالي من الحوار ، عدا مشهدين أو ثلاثة ، منهم مشهد الرجل الغريب الذي طرق باب منزلهم ، ليسألهم عن شراب 
 
 فقال له العجوز : لما لا تذهب للبلدة ؟
 
: الريح الشديدة دمرت كل شيء.
 
يطلب العجوز من ابنته أن تملأ زجاجة الغريب بالنبيذ الأبيض .. يجلس الرجل ويشرع في الحديث قائلا :" عليك أن تدرك أن الإنسان سبب خراب العالم .. العاصفة جاءت لتعاقب الإنسان وهي من الرب .. أفكار الإنسان باتت عدوانية ..حقق كل ما يريده بالاحتيال والغش .. كسب وخراب .. أن كنت تسعي للكسب يجب أن تخرب .. وإن كسبت .. يدمر العالم  .. نعم أنهم يدمرون العالم هؤلاء البشر .. مجموعة تسعي لقتل مجموعة أخري  وكل منهم  يريد تدمير العالم وكسب الحرب .. هناك شخص يربح دائما والآخر يخسر دائما، حتى تدرك في النهاية انه ليس هناك حقيقة .
 
ليرد عليه العجوز الغاضب الذي بات يعنف حصانه المتمرد : هراء .. كل ما قلته هراء ثمة حقيقة .
 
 
بعدها تحصل الفتاة على كتاب من الغجر الذين يحاولون سرقة البئر باسم (ضد المسيح) ، ويستطيع المشاهد الربط بين حديث الرجل والكتاب !، ثم يجف البئر بعد ذلك ، ويفشل العجوز في الانتقال لمكان أخر ، لأنه لا يعلم أي مكان آخر .. تقرا الفتاة بعض ما يحتويه الكتاب بصوت بلغ المسامع فتزاد ذروة الفيلم والتعبير بالصورة أكثر فأكثر .
 
وقال "تار" عن فيلمه الذي اختتم به مسيرته السينمائية حيث يرى انه قال فيه كل شيء :" عندما بدأت في هذا المشروع كنت أعرف أنه سيكون آخر أفلامي، وعلى المتفرج أن يعرف أيضا أنني أردت حقا أن أجعل الفيلم بسيط جدا، فأردته أن يكون فلما نقيا جدا.
 
 
الفيلم لا يعرض أفكار ويتعصب لها ، رغم انه قد يبدو كذلك ، حصان تورينو هو الإنسانية والشعور الذي قتل نيتشه ، كما قتل الحصان الذي رفض تعنيفه ، وصاحبه وابنته من خلال تبعات العاصفة على أرواحهم والتي كشفت العنف، العدوان الإنساني، الاستسلام ، وتأثير كل ذلك على (حيوان) ..المشهد الأخير (اليوم السادس)، "يستريح" فيه الرجل وابنته معتمدين على الصمت ولا نرى فيه أي نقطة دماء أو أي اعتداء على فراشة أو موت.. الرجل العنيف يسقط هو الآخر ولكن صامتا، رغم انه لم ينكر وجود الله ويجحده مثل نيتشه .. ولكن الإنسان في النهاية هو الإنسان مهما كانت جرائمه (ضعيف) ، نيتشه عاش بالكيفية التي تلائم أفكاره، لكنه جن بسبب السائق معنف حصانه والعدوانية والشر التي حطت رحالها بالعالم ، رغم انه نادى بها في بعض كتاباته ضد ما اسماهم بالأوغاد ، ونيتشه بالنسبة لرجال الدين عدو .. ولكن السينما لا تتعامل مع حياة البشر بهذه الكيفية والرغبة في السيطرة والتعصب للأفكار باعتبار المخالفين حشرات – اقصد نوع معين من الأفلام بعيدا عن سينما الوعظ والإرشاد عفانا الله منها -  "الشعور يهذب النفس لا العدوانية ."