مفيد فوزي
-١-
فى الفكر الصينى فى الإدارة يقال «المشروع تعاد صياغته فى التطبيق»، بمعنى أن أى نظرية مهما كان بريقها أو أى مشروع مهما كانت جاذبيته، نكتشف حين نشرع فى تطبيقه عملياً الأخطاء المحتملة، وليس عيباً التوقف ثم إعادة الرؤية، كان الرئيس الصينى «ماو» يقول فى أدبيات السياسة: «من يتصور أنى فى موقعى قادر على صيد الأسماك، فإنه بالقطع ينافقنى ويخدعكم، فالأسماك تسقط فى شباك صياد ماهر لديه الخبرة، أين يرمى الشباك، وفى أى وقت من السنة يتكاثر السمك»، يقول ماو: «الخبرة لها الغلبة، أما الولاء فهو لجيش الصين العظيم».

هذا الفكر يمجد قيمة الاستعانة بالخبرات المتراكمة لا الاستغناء عنها أو تهميشها، فمجالات الحياة المتعددة فى حاجة إلى مفاتيح تكتشف عالمها، ودون خبرات أصحابها تظل موصدة أبوابها، كان عبدالناصر يرى فى الدكتور محمود فوزى، عميد وزراء الخارجية، «خبرة مدنية» لاكتشاف الطريق، ولا أغفل دور محمد حسنين هيكل فى الاختيار، وكان السادات يرى فى عقل د. مصطفى خليل رحابة فى الأفق والرشد، ولا أغفل دور الأستاذ موسى صبرى فى الاختيار. وفى زمان مبارك كان د. أسامة الباز وصفوت الشريف «رمانة الميزان»، فلم يكن أسامة الباز راضياً عن تعليق مبارك الشهير «خليهم يتسلوا»، كان الباز يرى أن عفوية الرئيس فى الارتجال يجب أن توزن بميزان الذهب. فالكلمة تستقبلها الجماهير وتلوكها، «ومن الكلمات ما قتل!». وفى برنامج تليفزيونى ارتجل مبارك رأياً فى الأميرة ديانا. وكان عندى بعض الفطنة وربما الخبرة لكى أصارح الرئيس بحذف الرأى المرتجل الذى قد يسبب مشاكل فيما بعد وواقفنى يومها صفوت الشريف، وكان أن حذفنا هذه الفقرة. وبخبرة السنين طالبت الرئيس آنذاك بالإجابة عن سؤال: هل أنت مخاصم بورسعيد؟ وذلك عقب ما تعرض له الرئيس فى بورسعيد من اعتراض عامل. ووافق فى الحال لتطمئن بورسعيد أنها ليست فى حالة خصام مع رئيس الجمهورية بسبب حادث فردى.

الخبرات- فى هذه الأحوال- تبصر القيادة ببعض عثرات الطريق.

-٢-
هناك نقطة جوهرية تتعلق باختيار الأشخاص للمناصب ذات الفاعلية، ولا أغفل- فى حديث مصارحة، واتساع صدر قيادة- الإشارة إلى محافظ ارتشى فأُعفى من منصبه، ومحافظ سقط فى تصرفات شخصية فأُعفى من منصبه. وكلاهما ضعفت نفسه أمام إغراءات شتى مختلفة. مرة كنت أناقش عالم الاجتماع د. أحمد خليفة حول «الاختيارات الخطأ فى مناصب حساسة»، وقال لى: «وارد أن تحدث أخطاء.. والمهم ألا تفسد المنظومة كلها»، وقال إن التدقيق الشديد فى اختيار أشخاص لمناصب حساسة خصوصاً فى مستويات الإدارة العليا واجب، وسؤال الأجهزة المنوطة ضرورة. فإن تلافى السلبيات بعد تذليل الصعاب لا يُغتفر فى العمل العام.

ومن كلام أحمد خليفة أن «التدرج فى السلم الوظيفى فى المجال الواحد حتى يصل إلى أعلى مستوى فى الإدارة يؤكد إتاحتنا للخبرات أن تتفتح وتبدع، أما الهبوط بالبراشوت على المناصب دون أدنى خبرة سوى الولاء فهو خطأ جسيم من حيث الارتباك فى القرار، بالإضافة إلى عدم اقتناع المستويات الأقل فى الإدارة بصاحب المنصب الذى هبط وأقصد المرؤوسين»!

فى رؤية للدكتور سيد عويس، الخبير الاجتماعى الكبير، أن «ضبط إيقاع الشارع ليس مهمة الشرطة وحدها، إنما للإعلام الذى يملأ وجدان الجماهير بشتى التيارات الفعل الكبير». ويوم كتبت عن مستر x الذى لا نراه فى الإعلام، وهو صاحب المنع والمنح، كنت أضع حصان الخبرات قبل عربة الولاءات. وبصيغة أخرى كنت أريد «خبرة لها ولاء»، تسمح ببعض النقد فيقوى صلابة النظام. كنت أريد قسطاً من السياسة للفهم، فنحن على أبواب عهد جديد «مجلس الشيوخ» و«الأحزاب». كنت أريد تقليل برامج الفنانين واستديوهات تحليل الكرة، ولو كان لنا بخبرات متراكمة إعلام قوى لقام هو بالرد على «المقاول إياه» ولم يخرج الرئيس للرد بنفسه رغم رجاء الأجهزة.

لكن إعلامنا- ولنتكلم بصراحة- من قلم يحكمه ولاء بلا حدود إعلام ميرى وكأنه يتلقى محاضرات فى كلية الدفاع، إعلام ميرى بالقلم والمسطرة لا اجتهاد فيه ولا مياه جارية أو أفكار موضوعية أو حتى حوارات عاقلة تفتح الأفق والمسام.

أنا لا أرى مستر x ولا أعرف كيف يفكر، ولكنى أعرف ولاءاته، ومن هنا فالصلة مقطوعة بينى وبينه وموصولة مع الأشخاص «الواجهة» وهؤلاء ليسوا أصحاب قرار!

إن علم الإعلام هو دراسة خريطة الواقع المعيش وتقديم المعلومة له وليس- بأى حال- علم الفنكوش!

إن إعلام بلدى هو «جيش مدنى» بالكلمة المذاعة والمرئية والمكتوبة، فتعرض الولاء بطبيعة الحال، وإذا رأت الأجهزة المعنية خللاً ما فدورها التخلص منه، لا ولاء مزدوجا، فهذه خيانة!

-٣-
من المهم دراسة سلبيات القرارات السابقة من ٥٢ حتى الآن، إن الفيلسوف الإنجليزى برتراند راسل يقول فى هذا السياق: «إن كل صاحب نظرية فى السياسة يتصور أنها إلهام من الله يقود بها شعبه، والحقيقة أنها فعل بشرى خاضع للخطأ والصواب».

نحن لم نتوقف عن الشعور بالخوف من الإدلاء برأى يخالف رأى القبيلة. «فى زمان بعيد اقترح فكرى أباظة الصلح مع إسرائيل ولاقى عقاباً بالمنع من الكتابة، وبعد سنين تحققت نبوءة فكرى أباظة عقب حرب ٧٣».

هل لايزال أصحاب الآراء الجريئة يحجمون عن المصارحة بها؟ ربما!

هل الرقيب على الصحف أو الشاشات مؤهل لفهم تقنيات العمل الفنى وآلياته؟ لا أدرى.

هل الرجل المناسب فى المكان المناسب أم الولاءات تحدد جغرافية الأشخاص؟ لا أدرى.

هل يعرف الناس أو يفطن الإعلام إلى أهمية الطرق فيما يمكن أن يطلق عليه عسكرياً «خطوط الفتح الاستراتيجى» وذلك للتواصل مع «طريق الحرير» القادم من الصين عبر التجارة العالمية وآفاقها المفتوحة؟ لا أدرى.

ثم هناك عدة حقائق، الأمانة تقتضى البوح بها.

١- حين لا يمنح إعلام البلد الناس المعلومات فإنهم يسمعون إعلام الخارج بحثاً عن حقيقة!

٢- الناس عايشة بالسلف والجمعيات لمقاومة الغلاء.

٣- تخفيض سعر البنزين كان مقرراً منذ ٣ شهور وليس رد فعل لما جرى، بدليل أن السولار لاتزال أسعاره كما هى!

٤- عندما تواجه الدولة شرارة فلابد قبل أن تشتعل النار أن تكون «المعلومات» كاملة أمام عيون الدولة.

٥- لاتزال الديمقراطية، كأحد نظم الحكم وأساس أى نظام سياسى، فى خطواتها الأولى رغم تاريخ العمل السياسى الطويل فى مصر.

٦- كانت «القوة الناعمة» فى زمان عبدالناصر فاعلة ومؤثرة.

-٤-
إن ولائى- كمصرى بالتاريخ والجغرافيا- لنظام السيسى ليس محل مناقشة لأنه محفور كالوشم، ليس من باب طبول المداحين والكورس بل ولاء بفهم ورشد.. يسمح لى- بلا خوف- أن أقول ما أعتقد. ويوم أنزل للتظاهر، سوف أهتف لمصر وأهتف للسيسى.
نقلا عن المصرى اليوم