القمص.أثناسيوس ﭼورﭺ

 
لسفر المزامير مكانته في عبادة الكنيسة... فبه ندخل المقادس حيث يتربَّع الله على تسبيحات شعبه كعُرس له (مز ۳:۲۲) نعبد بثقة وخشوع وفرح وتسبيح ورحمة لنكتشف ونعيش مغزى التاريخ كظهور إلهي في حوار متبادل مع الله‘ مكتسبين لهجة روحية٬صائرين محبوبين لدى الله(دا ۲۲:٩) مرتلين له أمام الملائكة (مز ۱۳٨).
 
والكنيسة في حقيقتها هي جماعة مرنمة مُصَلية عابدة٬ جماعة تسبيح وترتيل تَقْتَات كما من أنشودة مفرحة٬ إنجيلها بشارة مفرحة بملكوت الفرح في الروح القدس.... وتسبيحنا بالمزامير يجعلنا مساوين للملائكة في عملهم ويوحدنا معهم. (طفت وذبحت في خيمته ذبيحة التهليل (مز ٦:۳٧) قطَّعتَ قيودي فلك أذبح ذبيحة التسبيح) (مز ۱٧:۱۱٦). (أذبح لله حمداً)(مز ٤:٥٠).
 
نبدأ قداسنا بكلمات المزامير ذات القوة الروحية والنصرة٬ مرددين النبوات عن السيد الرب بنظرة مسيحية كتصور مُسْبق عن تدبير الخلاص العجيب. فتكون تلاوتنا للمزامير دواءً لشفاء النفس.... بادئين عبادتنا ويومنا وقداسنا ونهارنا بتراتيل عذبة مقدسة٬ وننال قوة مريحة ونجد التعزية في أغاني حبنا وتمجيدنا٬ مقدمين التقدمات والمحرقات الروحية الجماعية (۲صم ٥:٦)(۱أي ۳۱:٦)(نح۲٤:۱۲)(عا ٥:٦).
 
والمزامير تعكس العبادة الرسمية للكنيسة إذ أنها متصلة أساساً بالعبادة الذبائحية وبأورشليم وبالخيمة المقدسة..... إن سفر المزامير أصلاً هو سفر التسبيح الليتورجي في الهيكل٬ فمنذ بداية المسيحية وهناك صلة قوية بين الجماعة المتعبدة والمزامير(۱كو۱٥:۱٤)(أف ۱٩:٥) وهذه العلاقة مستمرة ونامية حسب طقس ترتيب العبادة الأرثوذكسية. وكما ان مزامير السواعي هي قانون الصلاة الشخصية٬ كذلك نصلي المزامير في العبادة الليتورجية كتعبير عن حياة الصلاة المتوازنة (فلنقدم به كل حين لله ذبيحة التسبيح أي ثمار شفاه معترفة باسمه) (عب ۱٥:۱۳).
 
ويعتبر كل مزمور هو تعبير مباشر عن إدراك النفس لله٬ ومرآة خلالها يعاين كل إنسان مشاعر نفسه٬ ويعتبرها قصته الشخصية... ليجد الإجابات والتعزية والنصرة٬ بعيداً عن الروتين والآلية وتتميم الطقوس المجردة.
 
لهذا تعتبر كنيستنا أن صلاة المزامير وجوبية وأساسية وأصيلة في حياة شعب الله وخبراتهم وتاريخ عبادتهم.... هي شبعهم ومرعاهم وتدبيرهم.... فقد تمت فيها النبوات وكل المكتوب.... فيها التضرع والتوسل والمناجاة والشكر والمَراثي والتسبيح والتشفع وإلتماس وجه الله الإعتراف والتهذيب والتذلل والحكمة.... إنها صلوات وضعها الروح ونطق بها٬ لذا هي ممتلئة بتعاليم حكمة الله وهي حاوية كل اللاهوت..... والكنيسة بهذا تتَّحد بذاك الذي أتى وسكن فينا وبيننا في أقواله وكلامه٬ عندما يصير المسيح الكلمة هو حياتنا كلنا وخلاصنا كلنا خلال السر. الكنيسة أيضاً تهيئنا وتُعدنا لنتقدس بصلاة المزامير لأن الحكمة واللاهوت العبادة لا ينفصلوا عن بعضهم البعض.... بحيث يتمركز إهتمامنا بالله نفسه الذي هو مركز كل مزمور فنرى حضرة الرب إله الكنيسة في وسطنا نتحدث إليه ويتحدث إلينا ونتحدث عنه وله..... لذا قيل: أن المسيح وكنيسته يتناجيان في مزامير العبادة عندما يكون في وسطنا ومعنا ونخبر علانية بخلاصه الذي يتحقق الآن وهنا٬ في الكنيسة بيته ومحل مسكنه... نبث لديه ضيقنا وضعفنا ونطلب عونه ورحمته وغفرانه.... فنتكرس ونتقدس بكلمات وتمجيدات ونبوات.... نرددها جماعياً معاً وننطق بالحمد كأعظم رد فعل من الكنيسة لعريسها٬ من الجسد للرأس مقدمين ذبيحة حية مرضية في عبادة عقلية في خيمة إلهنا (كنيسته) مؤكدين على أن الكنيسة هي وحدها حافظة المعنى الحقيقي للكتاب المقدس بعهديه.
 
وفي المزامير يتحدث المسيح عن نفسه في شخصه هو٬ بكونه رأسنا٬ وأحياناً في شخص جسده٬ أي عنا نحن كنيسته٬ لكنه يتكلم بصيغة المفرد لكي نفهم أن الرأس والجسد متكاملان ولا ينفصلا.... فنتعرف نحن على المسيح وكنيسته في صوت واحد فمسيحنا ليس ممجداً فقط في المزامير٬ وإنما قد وُضعت المزامير على شفتيه.... لذلك نحن نصلي معه ونوحد أصواتنا مع صوته٬ تتقدس شفاهنا ونفوسنا وتتكرس قلوبنا مستخدمين المزامير فتمتد الصلاة بها في كل الجسد أي في الكنيسة كلها. مستهلين القداس بسر الكلمة الإلهية الذي يَكمُل بتقديم القرابين وتقديسها وتوزيعها حتى نفي النذور ونقدم الذبائح ونرتل التسابيح وسط الجماعة العظيمة٬ ونطوف حول المذبح ونمجد الملك في قصره الملوكي وتصير صلوات السواعي بهذا الترتيب بمثابة أيقونة صوتية ناطقة تحكي تدبير الخلاص وحدوثه فيما بيننا٬ وأن هذه النبوات قد كملت وتحققت وأن المسيح معلن وحاضر فيها وتكون كلمات المزامير كلماته هو٬ وصلاتها صلاته٬ إذ أن المسيح والكنيسة يتكلمان ويصليان ويتناجيان في وحدة حالهما في هذه العبادة صوتاً واحداً٬ تعبيراً وتجسيداً لهذه الحقيقة ( الأيقونة الكلامية للمسيح والكنيسة) وبهذا تكون صلوات المزامير مدخلاً إلى سر الكلمة الإلهية الذي يسبق إنفتاح الذهن (حينئذٍ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب) (لو ٤٥:۲٤).
 
نبدأ بالمزامير لنعيش في القداس الإلهي سر حياة المسيح بكُليته٬ منذ النبوات وبدايات حضور المسيح على الأرض عبر الأقوال النبوية وتهيئة طريق الرب ودعوتنا لإستقباله بالترتيل كخوروس جماعي منضبط الإيقاع الروحي على نحو متوافق.... ليحمل الثمار الروحية.... يكون فيه كل مؤمن آلة إلهية الصنع جاهزة ومناسبة لتمجيد الله.... فكل إنطلاقة يستتبعها إنطلاقة أخرى في مسيرة القداس لنصل إلى الإتحاد بالجسد والدم الكريمين٬ كل خطوة هي في الوقت نفسه نهاية وبداية لإنطلاقة جديدة نحو إقتناء ما هو أسمى.... كل إنطلاقة يستتبعها إرتقاء وإنطلاق لبلوغ حضور المسيح مخلصنا الذي سبق الإنباء عنه ويكشف معنى الخلاص الذي يقود للمسيح ويكتمل به٬ فما يبدو لنا مُقتضَب ونبوي ورمزي في المزامير المرتلة٬ يصار إلى توضيحه بأجلى بيان.... عندما تصير ظهورات الرب ظهوراً أكمل بالظهور المحيي الذي لربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح.
 
يدعو القديس أثناسيوس الرسولي سفر المزامير (خلاصة الكتب المقدسة كلها) على إعتبار أن هذا السفر هو الكتاب المقدس داخل الكتاب المقدس.... لذلك نصلي المزامير معاً كصوت الكنيسة وإعتراف الإيمان٬ نرددها بذات الروح الذي به وُضعت‘ نتبناها في أنفسنا بذات الطريقةكما لو أن كل مزمور منها قد وُضع من أجلنا..... حينئذ نُسر ونفرح بجمال المسيا والكنيسة عروسته‘ يكون المسيح رأسنا الحاضر معنا يتحدث إلينا ونحن نُجيبه فتتشكل أرواحنا بمشاعر التوبة ونمتلئ من المخافة والتقوى مبشرين بتسابيح الرب (إش ٦:٦٠).التي هيخبرات الأنبياء والقديسين ورؤساء الآباء وأمجاد الهيكل. إذ أن هذه المزامير في أصلها ليست من تأليف أحد لكنها قيلت بالروح. 
 
ويقول معلمنا بولس (متى اجتمعتم فكل واحد منكم له مزمور...)(۱كو ۲٦:۱٤) وبهذا صار نظام وترتيب العبادة في القداسات نصلي صلاة وتسبحة الساعة الثالثة والسادسة بالإضافة إلى الساعة التاسعة والحادية عشر والثانية عشر في الصيامات لتكون مزاميرنا للملك المسيح حاضرة تُجلسه على عرش قلوبنا وترافقنا البركات وذكرى عهد الدهور مُخبرين بإسم إلهنا نسبحه في وسط الكنيسة على إعتبار أن القداس هو تكميل وامتداد للعمل الكهنوتي في العهدين وهو رحلتنا إلى السماء لنأكل المن الجديد العجيب‘فأي مزمور تنطقه الكنيسة فهي إنما ترده إلى أصله٬ فالنور أعظم من الظل‘ والحق أسمى من الرمز..... حيث بيت الوليمة والمسيح مستمر في عمله خلال جسده السري٬وهكذا تهيئنا مزامير السواعي لسر الإفخارستيا(سر خلاصنا) عندما يتم جميع ما هو مكتوب فنمجد الله بكلماتنا كما بأعمالنا وتسبق حياتُنا أفواهَنا‘ عند افتتاح الخدمة الإلهية ولا ينفصل صوتنا عن قلبنا وروحنا وعقلنا وتكون الوصية الإنجيلية والنبوات والإستعلانات أساس التعليم أمام أذهاننا...... فنتقدس ونتقدم إلى الأمام بصلوات الكنيسة والمتوافقة مع شرائع الله والمجتمعة حول الذبيحة الحية الأبدية‘ وتكون صلاتنا مسموعة وعبادتنا مقبولة وذبيحتنا مرضية فننعم بالإستجابة.
 
إن كنيستنا تضع المزامير في أول القداس ليكون داود المرنم الحلو في الأول وفي الوسط وفي الإنتهاء ولتكون لنا خارطة طريق دائمة في مصاعد مشتركة حيث يتصور كل واحد أنه هو المتكلم بالمزمور والعامل فيه في تسبيح وشكر وتزكية...... والعجب العُجاب أن المزامير في العبادة الطقسية نرددها كأنها صادرة عنا كجماعة وكأعضاء وكأنها كُتبت خصيصاً لنا نصلي بها وكأننا نتكلم عن أنفسنا وكأننا نحن الذين وضعناها ونسلك بموجبها وبالإجمال فكل مزمور نردده هو تقدمة سكيب صيغ وقيل بالروح لكيما بهذه الكلمات عينها يمكننا الوعي بأننا نردد صدى تيار الكنيسة كلها عبر الأجيال. إنها نعمة من المخلص أن نصلي له وأن ندخل إلى حضرته ونتخذ موقفاً وتعبيراً يتناسب ويليق بالذين يركضون للإتحاد به في سباق الفضيلة عن طريق المزامير وهيئة هذه الصلوات التي تضمنت الإستعطاف والطلبات والإستنهاض والتمجيد والإفتخار والتهليل والبركة والسجود والإكرام والإستعداد الروحي المقدس والإتكال وتحصين النفس وطلب المعونة وبناء معاهد الله في الأرض وإمتلاك فكر المسيح والإبتهاج والفرح بزينة الخلاص المقدسة والهُتاف بالملكوت الأبدي بلحن عذب وإتفاق وانسجام الإرادة.
 
والروح الناطق في القديسين يسمع الصلوات المُوحَى بها فيعيننا في تسبيحنا ويقوي عبادتنا مع كل الذين أرضوا الرب إرضاءاً عظيماً بترديدهم لهذه المزامير التي حفظوها فحفظتهم.... وبها قهروا ممالك وصنعوا براً ونالوا مواعيد وسدوا أفواه أسود وأطفأوا قوة النار ونجوا من حد السيف وتقوا من ضعف (عب ۳۳:۱۱) لأن الرب موجود في كلمات الأسفار الإلهية المُوحى بها من الروح القدس فنتراءى أمام المذبح المقدس الناطق السمائي وعلى شفاهنا دم الحمل المذبوح مرنمين تسبحة الغلبة والخلاص وتقديم الحمد.