فى معرض القاهرة الدولى للكتاب عام ٢٠٠٥، فاجأنى الكاتب المصرى السويسرى «جميل عطية إبراهيم» بأن طلبَ رقم هاتف والدتى! هاتَفها وقال لها بالحرف: (مدام سهير، أنا مَدين لكِ بالشكر، لأنك أنجبتِ التى فتحت لى عالَم مغلق. عالم فرجينيا وولف. أنا قرأت رواياتها بالإنجليزية، لغتها الأصلية، وقرأت ترجمة رواياتها للفرنسية وبرضو مفهمتهاش؛ رغم إتقانى للغتين! فـ كرهتها. وقفلت بابها للأبد لأننا مش بنحب اللى مش بنقدر نفهمه. ولكن لما قرأت شغلها بالعربية بترجمة بنتك، اكتشفت قد ايه عالم ڤرچينيا وولف ساحر، وبدأت أعشق أدبها. أنا مَدين لابنتك بدخولى عالم فرجينيا وولف لأول مرة من خلال ترجمات فاطمة ناعوت. أشكرك أيتها الأم العظيمة). صارت تلك المحادثةُ الجميلة طُرفةً تحكيها أمى لصديقاتها، ويحكيها الأديبُ الكبير «جميل عطية إبراهيم» كلما زار القاهرة من چنيف، والتقينا. وصارت شهادةُ ذلك الرجل الجميل إكليلاً فوق هامتى، أزهو به فرحًا وخُيلاءً.

 
وبالفعل فإن صعوبة «ڤرچينيا وولف» الأدبية حقيقةٌ يعرفها كلُّ ضالع فى الشأن الأدبى. أولا: لأنها تكتب وفق مدرسة «تيار الوعى» stream of conscious، التى تجعل الكاتبَ يستسلم تمامًا لصوتِ مونولوجه الداخلى، ثم يرسمُ كل ما يَرِدُ إلى عقله من أفكار ومشاعر دون ترتيب أو تشذيب أو إخضاع للمنطق. وهو ما اسماه النقادُ «التداعى الحرّ للأفكار». حيث شلالُ الأفكار والأحاسيس يتساقط داخل أذهاننا دون ترابط ولا نظام، بكل عشوائية المشاعر وتنافرها وفوضويتها وارتجالها ونزقها وعجائبيتها.. يهيمُ معها الأديبُ ويرسمها بالكلمات. قد تبدأ وولف جُملةً فى صفحة؛ ثم تُنهيها بعد عدة صفحات، بسبب انهمار الأفكار كالسَّيل الجامح دون توقف. وأما السبب الأهم لصعوبة كتابتها، فهو إصابتها بمرض عقلى سأتحدث عنه بعد برهة. حين أنهيتُ مخطوطةَ ترجمتى لأحد كتبها، ذهبتُ إلى شيخ المترجمين العرب، أ.د. محمد عنانى، فى مكتبه بجامعة القاهرة، أطلبُ منه المراجعة وكتابة مقدمة. وبمجرد أن سمع اسم «ڤرچينيا وولف» هتف قائلا: (ليه اخترتِ وولف يا حبّوبة؟ دى حيطة سدّ.) قلتُ له: (أحببتُها، وعشتُ أوجاعَها!) وكتب د. عنانى مقدمةً رائعة أشادَ فيها بدقّة ترجمتى وبراعتى فى القبض على مفاتيح أسلوبية ڤرچينيا وولف. وصدر الكتاب عن (المركز القومى للترجمة) قبل عشر سنوات، ومازال يُطبَعُ فى طبعات عديدة كل عام، مُتوَّجًا بمقدمة د. عنانى التى أعتبرها تاجًا فوق هامتى أزهو به، إضافةً إلى كتابى الأول عنها عام ٢٠٠٤: «جيوبٌ مُثقلةٌ بالحجارة»، بتقديم د. ماهر شفيق فريد. فى مقالى الخميس الماضى (أيها الخائنُ.. أيها النبيل)، تكلمتُ عن «الخيانة الأمينة»، و«اللصوصية الشريفة» التى يمارسُها الأديبُ فى ترجمة الأدب والشِّعر. وألمحتُ إلى وجوب «حلول» المترجِم فى روح وشخص وجسد المُترجَم عنه، حتى يُنتج نصًّا فاتنًا لا يقلُّ عذوبةً وإبداعًا عن النص الأصلى. ووعدتُ فى نهاية المقال بأن أحكى لكم كيف «حَلَلْتُ» فى شخص ڤرچينيا وولف لكى أترجم أعمالها. والحلولُ الذى أقصده، استعرتُه من طقس «الحلول الصوفى» الذى تكلّم عنه المتصوفة؛ وأجلى مثال عليه قصيدة «الحلاج» إذ يقول: «أنا مَن أهوَى، ومَن أهوى أنا/ نحنُ روحانِِ حَلَلْنا بَدَنا/ فإذا أبصرتَنى أبصرتَهُ/ وإذا أبصرتَهُ أبصرتَنا/ رُوحُهُ روحى ورُوحى رُوحُه/ مَن رأى روحينِ حَلَّا بدَنا». سنواتٍ طوالاً «توحّدتُ» فيها مع البريطانية الجميلة ڤرچينيا لكى أؤلف عنها، وأترجمَ لها. كانت مصابة بـBiPolar Disorder. وهو اضطرابٌ عقليّ يجعل الإنسان َمتأرجحَ الِمزاج بين أعلى درجات البهجة وأحطِّ درجات الإحباط. ولكن ڤرچينيا العظيمة روَّضت المرضَ وساسته وسَخَّرته فى إبداعها على نحو عبقريّ فريد. جدلت ضفيرةً من خيالاتها (التى تضربها فى نوبات مرضها) مع واقعها (الذى تعيشه فى لحظات وعيها) ثم قدّمت من تلك الجديلة أرفعَ ألوان الأدب، وأصعبَه، فى النصف الأول من القرن الماضى. لكن المرضَ انتصر عليها فى الأخير وانتحرت غرقًا فى نهر «أوز» بانجلترا عام ١٩٤١، لكى تهرب من هلاوسِها وتُخفِّف عن زوجها عبء رعايتها. عشتُ حياتَها وانصهرتُ فى هلاوسِها وبكيتُ لأحزانِها، وفرحتُ لبهجاتِها، وارتعبتُ من هتلر؛ كما ارتعبت هى وزوجها، ودخلتُ معهما غرفة الغاز التى صنعاها فى جراچ بيتهما؛ لينتحرا بالغاز إن غزا هتلر بريطانيا.
 
كنتُ أقرأ نهارًا، وأترجمُ ليلاً، وأنامُ فأرى فى أحلامى وجه ڤرچينيا الحزين. أمسحُ دموعَها وأهدئ من روعها وأخبرُها أن مخاوفها انتهت مع موات النازية التى هدّدت الحلفاء. فتتركنى إلى غرفة الغاز لتطمئن أن الضخَّ جاهزٌ. وذات نهار، ذهبتُ معها إلى النهر وأثقلتُ جيوبَ فستانى الفيكتورى بالأحجار مثلها، لكنها غافلتنى وأغرقت نفسَها وماتت؛ قبل أن تعرف أن النازيَّ هُزم وفشل فى اجتياح وطنها فى الحرب العالمية الثانية. وجلستُ على ضفاف النهر أبكيها سنواتٍ. تحيةً لروحها. ودائمًا «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم