فى مثل هذا اليوم 1 اكتوبر 1970 ..

تشييع جنازة الزعيم ..حسب ما جاء بمذكرات وزير الداخلية انذاك السيد شعراوى جمعة..
 
سامح جميل 
وشعراوي جمعة ( 1920- 28 نوفمبر 1988) وزير داخلية سابق في عهد جمال عبد الناصر، تخرج في الكلية الحربية، من مواليد القاهرة ، شغل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية، مقرر اللجنة التنفيذية العليا كان المسئول عن التنظيم الطليعي الذي كان يضم نخبة من القيادات السياسية التي سوف تتولى القيادة وضمان استمرار النهج السياسي لثورة 23 يوليو وتطويره. وكان من المتفوقين في دراسته الثانوية والعسكرية ، كما أنه اشتغل في الخمسينات مع عبد المحسن فائق في جهاز المخابرات المصري وكان زميلا له وكان يشتغل رئيسا لفرع الخدمة السرية في المخابرات العامة .حصل على ماجستير العلوم العسكرية 1951، عمل كمدرس بالكلية الحربية ثم برئاسة الأركان 1957، عمل نائب مدير المخابرات العامة 1957 - 1961، محافظ السويس 1961 - 1964، أمين عام الاتحاد الاشتراكي 1969، والتنظيم الطليعي، أنشأ مدرسة أمناء الشرطة عام 1967، حوكم عام 1971 في ثورة التصحيح، توفي في 28 نوفمبر 1988..
 
يقول السيد شعراوى جمعة عن احداث اضخم جنازة فى التاريخ ..
مع رحيل الزعيم جمال عبدالناصر، شعر جميع من حوله بالفراغ الهائل الذي تركه، وبدأت أسئلة تُطرح حول خليفته المنتظر، لذلك بدأ شعراوي جمعة بالتشاور مع كل من سامي شرف، وأمين هويدي، ومحمد حسنين هيكل، حول خطوتهم المقبلة. كانت لديهم رغبة في تقديم استقالة جماعية، لكن الانشغال بتجهيزات الجنازة الرسمية للراحل العظيم أجل اموراً عدة، فيما جعل الضغط الشعبي الجارف الجنازة الرسمية تذوب في الطوفان البشري الذي اكتسح مشهد القاهرة في ذلك اليوم الكئيب. جمعة يتذكّر بعض مشاهد جنازة الزعيم العربي ومواقفها التي جرت في العلن وفي الكواليس.
 
كان علينا وسط مشاهد الحزن ومشاعره الفياضة أن نعمل على ترتيبات الجنازة، وفي هذه الأثناء ظهرت لنا مشكلة جديدة. كانت وصلتنا معلومات تفيد بأن المنتسبين إلى «الطرق الصوفية» في مصر سيتكالبون على الجثمان ليخطفوه ويسعون به حول جميع مساجد العاصمة، ويطوفون به على أضرحة أولياء الله الصالحين، في «السيدة زينب»، و«الحسين»، و«السيدة نفيسة». وبعيداً عن هذه المعلومات كان مطلوباً أن نؤمن حماية كافية للجثمان، تكفل بها الجيش بالتعاون مع الشرطة، ووضعت خطة محكمة لحماية وتأمين الجثمان أثناء نقله من القبة إلى الجزيرة، وأثناء سير الجنازة.
 
كانت أمامنا نقطة مهمة تختص بكيفية نقل الجثمان من قصر القبة إلى مقر مجلس قيادة الثورة، وسط الحشود المنتحبة على رحيل زعيمها، وتقرّر أن تنجز عملية النقل بواسطة إحدى الطائرات «الهيلوكوبتر» على أن ترسو في نادي الجزيرة القريب من المنطقة. وبعد الاطمئنان على آخر ترتيبات الجنازة، وعلى تأمين فندق «الهيلتون»، حيث من المقرر أن يقيم الزعماء والرؤساء المشاركون في تقديم العزاء وفي تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير، قررتُ مع مجموعة من الوزراء أن نبيت معاً ليلة الجنازة في مبنى «هيئة قناة السويس».
 
بات معي في تلك الليلة كل من أمين هويدي، وسامي شرف، وحلمي السعيد وزير الكهرباء والسد العالي، وسعد زايد، بالإضافة إلى أحمد مشهور، رئيس هيئة قناة السويس، وكانت حالتنا جميعاً يرثى لها، كانت عاطفتنا تجاه جمال عبدالناصر تماثل عاطفة ملايين البشر في مصر، وفي الوطن العربي تجاهه، وأخشى أن أقول إنها ربما كانت تتخطاها. كنا نحن الذين عملوا إلى جواره، نعمل معه كمناضلين وليس كموظفين، نعمل بحب له، وبحب للبلد، نعمل معه بإخلاص وبصداقة وأخوة لأجل مصر، والعمل مع عبدالناصر لا يمكن قياسه بالعمل مع أي أحد آخر، وهذه أحد الأسباب الرئيسة في خلافنا بعد ذلك مع أنور السادات.
 
اختلفت نظرتنا إلى أسلوب العمل مع الرجلين. كان الفارق بين الشخصيتين كبيراً، وكان أنور السادات نفسه يشعر بذلك بشكل واضح. كنا نحب العمل مع عبدالناصر الإنسان والبطل، مع القائد الذي يحميك، مع المعلم الذي يعلمك، والأخ الذي يساعدك، والأب الذي يربت على كتفك وقت الشدائد، لذلك لا يمكن أن تعطي هذا الحب كله الذي تكنه لهذا الوطني العظيم لأي أحد آخر.
 
ولست أعرف لماذا يستنكر الناس علينا مثل هذه العاطفة تجاه عبدالناصر، ويسأل بعضهم ما علاقة السياسة بالعاطفة؟ هذه الجذوة من النار العاطفية التي كانت موجودة في داخلنا نحوه هي التي دفعتنا إلى أن نفكر ليلة الجنازة في الاستقالة من المواقع التي عملنا فيها معه، وأقولها الآن متجرداً، وبمنتهي الصدق مع النفس، كان تفكيرنا في تلك الليلة منصباً على الاستقالة بعد خروج الجنازة، وانتهاء مراسم الدفن، كنا نقول لأنفسنا بصوت مسموع: كيف نتعامل مع أحد غير عبدالناصر؟
 
رواية هيكل
قصة التفكير في الاستقالة ذكرها البعض بطريقته، ورد عليها أمين هويدي بطريقته أيضاً، ذكر محمد حسنين هيكل أني طلبت منه أن نذهب إلى مكان نجلس فيه ونتحدث «أنت وأنا وسامي وأمين هويدي»، وقال: استقللنا نحن الأربعة السيارة الرسمية لوزارة الداخلية، وكان شعراوي وسامي شرف وأمين هويدي اتفقوا على أن يمضوا الليل في مبنى هيئة قناة السويس في غاردن سيتي، ومن هناك يستطيعون بسهولة أن يصلوا إلى مبنى مجلس الثورة في الجزيرة، حيث يبدأ تشييع الجنازة. أما أنا فكنت سأمضي الليل في منزلي على النيل مباشرة، وهكذا فإننا كلنا كنا متجهين الوجهة نفسها.
 
وعندما اقتربنا من كلية البوليس أوقف السيارة، والتفت ناحيتنا، وقال:
ـ أولئك الثلاثة، أنور السادات، وحسين الشافعي، وعلي صبري، ينزلون في قصر القبة، ويتصرفون كأنهم حكومة ثلاثية، مثلهم في ذلك مثل كويسغين، وبودجورني، وبريجنيف، بينما نحن الناصريين الحقيقيين، وأقرب الناس إلى عبدالناصر، لم نفعل أي أمر للتنسيق في ما بيننا، أو الاتفاق على أسلوب مشترك للعمل، ما يجعلني أرى ضرورة البحث في الموقف بعضنا مع بعض.
 
قلت له: «لنكن واضحين بشأن موقف كل منا. ثمة نقطة نظام أضعها ونصيحة صغيرة أقدمها، أما نقطة النظام فهي أنكم إذا كنتم تريدون التنسيق في ما بينكم بصفتكم وزراء فلا تفعلوا ذلك بحضوري لأني ربما استقر برأيي على الخروج وترك الوزارة».
 
أثار قولي غضباً شديداً لدى سامي شرف وقال: «لا، إما أن نخرج كلنا، أو نبقى كلنا»، فقلت: «إني لم أكن أبداً جزءاً من السلطة»، فاعترض بأني إذا فعلت ذلك فسأبدو كأني غير مستعد للعمل تحت رئاسة أي شخص آخر غير عبدالناصر، في حين أنهم سيظهرون في مظهر المستعد لخدمة أي شخص.
 
وقلت لسامي: إنه يبالغ، وأني اتخذت قراري بالخروج من الوزارة، وسأتمسك به، لذا فإني لا أوافق على أي تنسيق بين الوزراء في حضوري. تلك كانت نقطة النظام، إما نصيحتي الصغيرة فهي أنه من الخطأ بالنسبة إليهم أن يحاولوا العمل معاً كناصريين، إن فعلتم ذلك، فإنكم، ولا شك، ستثيرون ردود فعل تؤدي في النهاية إلى صراع على السلطة.
 
وذكرت رواية هيكل أن سامي زاد انفعالاً وراح يصيح: «عبدالناصر لم يمت»، وبدأ يبكي، ويصرخ بأننا إما أن نبقى كلنا أو نخرج كلنا، وعندئذ فقدت أعصابي، ونزلت من السيارة، واتجهت إلى سيارتي، وكانت تقف وراء سيارة شعراوي مباشرة، وعدت إلى القاهرة.
 
هذه رواية «هيكل» عن هذا اللقاء.
 
رواية هويدي
الحقيقة أن أمين هويدي فند هذه الرواية وقال: «لم يمسني هيكل في حديثه من قريب أو بعيد، ولم يمسني الرجل في أحاديثه التلفزيونية التي أجراها عقب أحداث مايو 1971، ولا مسني في مقالاته التي نشرها في «الأهرام» وهو رئيس تحرير لها، وكان من الحكمة، والحالة هكذا، أن أقفز فوق ما قيل وأعبره، كما يفعل كثيرون، ولكني بذلك أكون كاتماً للشهادة، الأمر الذي نهانا عنه الله تعالى في كتابه العزيز، ثم لا أظنني أضير أحداً، حتى هيكل، بقولي ما حدث من دون تحريف.
 
ثم يبدأ في التعليق، فيسجل أن اللقاء لم يتم، كما قال هيكل، أمام كلية الشرطة، وبعد انتهاء الاجتماع في مكتب وزير الحربية في كوبري القبة. بل كانت بداية اللقاءات في قصر القبة، قائلا: ذهبت أنا وشعراوي وسامي إلى القصر، لنرى سير الأمور في زيارة خاطفة، وتركنا سامي في الشرفة الخارجية لفترة طويلة، عاد بعدها فجأة ومعه هيكل، ولم أكن أعلم بوجوده في القصر، ولم أكن أعلم أن اتفاقاً تمّ بين ثلاثتهم على اللقاء، بذلك كنت الوحيد الذي يجهل أن اللقاء سيتمّ.
 
لم يتم الاجتماع بطريقة مفاجئة، كما يقول هيكل، بل باتفاق مسبق، فإنه من الجائز أن يكون اندفع بغريزته الصحافية إلى مثل هذا اللقاء كي يتحسس الأوضاع بنفسه، ربما لنفسه، وربما لغيره، وربما للغرضين معاً، وليس في هذا عيب، فمن الحكمة أن يعرف كل فرد أين يضع قدمه. وعلى ما أذكر، فإن الاجتماع تم في مدخل مدينة نصر، وليس أمام كلية الشرطة، رغم أن هذا الأمر لا يغير قليلاً أو كثيراً في الموضوع.
 
لم يلق هيكل أبداً بهذه النصيحة عن الناصرية، والسلطة، والصراع، ولم يتحدث شعراوي جمعة أبداً عن السادة: السادات، والشافعي، وعلي صبري، كما لم يتحدث عن «الترويكا» الروسية، ولم يصرخ سامي، ولا هو أنكر وفاة عبدالناصر أبداً، لم يحدث أي أمر من هذا كما صوره هيكل في أسلوب غلبت عليه الإثارة الصحافية التي تبعث على التشويق. ولكن كل ما ذكره شعراوي لهيكل هو أننا قررنا التخلي عن مناصبنا عقب تشييع الجنازة، وبعد انتقال السلطة بالطريقة الدستورية، وسأله عن رأيه في ذلك.
 
رحب هيكل أيما ترحيب بالفكرة، وذكر أيضاً أنه سيترك المنصب الوزاري ليتفرغ لرئاسة تحرير «الأهرام»، حيث كان الرجل يجمع بين المنصبين، مضيفاً أنه لكل زمن رجاله، وعلى الجميع أن يعيدوا النظر في أفكارهم، وستتعدد اللقاءات في الأيام المقبلة، وسلم الرجل وذهب إلى عربته، من دون أن يفقد أعصابه، أو يغضب، واتجه إلى منزله، ونحن إلى مكتب سامي شرف.
 
أسئلة جمعة:
كما نرى، فإن الموضوع بسيط للغاية، ولكنه قدم بطريقة تلقي الظلال على النوايا، ولا شك في أن هذه الظلال كانت بالضرورة تترك آثاراً في النفوس، تتعمق بمرور الأيام. وكي لا ننسى، كانت جثة عبدالناصر ما زالت في قصر القبة، لم تشيّع بعد إلى مثواها الأخير، ومن ناحيتي أقرّر أن السؤال الذي كان يقلقنا هو: «هل من المناسب لنا نحن رجال عبدالناصر أن نعمل مع رئيس غيره، كائناً من كان؟ عند تحليل هذا الكلام من الناحية السياسية ربما لا يكون مستساغاً عند كثيرين، بعض الناس قد يقول: هؤلاء أغبياء، يتركون حكم البلد لأجل العاطفة؟
 
والآن أعترف بأن من يتعامل مع رجل مثل جمال عبدالناصر يصعب عليه كثيراً، إن لم يكن من المستحيل، أن يتمكن من العمل مع أحد غيره. كانت العاطفة تجاه القائد تشدنا إلى مثل هذا التفكير، وأدت دوراً كبيراً في رؤيتنا في ذلك الوقت، ولا أنكر أن عوامل أخرى من دون شك كانت تدفعنا إلى أن نفكر بمثل هذه الطريقة.
 
ونحن على هذه الحالة نبيت ليلتنا الأولى من دون عبدالناصر، في مبنى «هيئة قناة السويس»، فوجئنا عند الساعة الثالثة صباحاً باللواء حسن طلعت، مدير المباحث، العامة يتصل بي ليقول: «يبدو أن الجنازة لن تتم كما خططنا لها».
 
مسار الجنازة:
كان من المفروض، بحسب الخطة، أن تبدأ الجنازة الرسمية من أمام مقر مجلس قيادة الثورة حتى نهاية كوبري قصر النيل باتجاه ميدان التحرير، ومن أمام فندق «الهيلتون» ينسحب الرؤساء والزعماء المشاركون فيها إلى الفندق، وبعد ذلك تلتحم الجنازة الرسمية مع ممثلي النقابات المهنية والعمالية والفلاحين وقيادات الاتحاد الاشتراكي وتمضي في مسيرها حتى المقبرة.
 
ولكن ما جرى كان مختلفا تماماً، فالاحتياطات والإجراءات التي تتعلق بالجنازة الرسمية لم تستطع أن تصمد طويلاً أمام تدافع الجماهير في حديقة الحرية وخلفها، وانضمت لحظة بدء الجنازة الرسمية من الخلف، فلم تستطع أن تسير أكثر من 10 أمتار ذابت بعدها، على حد وصف جريدة «الأهرام»، في طوفان البشر الذي استطاع الوصول رغم الجهود كافة التي حرصت على غلق المنطقة، في حضور شعبي فريد فاق كل خيال أو تصور.
 
إزاء ذلك، اضطررنا إلى إنهاء الجانب الرسمي الخاص بالرؤساء وزعماء العالم الذين شاركوا معنا في تشييع القائد عند تمثال سعد زغلول بعد أقل من 500 متر من بدايتها، واستمرت الجنازة شعبية من اللحظة الأولى، ومضت في سيرها الطبيعي وسط أمواج من البشر، عند اقترابنا من فندق «الهيلتون» شعر كل من السادات وعلي صبري بالتعب وعدم القدرة على مواصلة السير في الجنازة، فنقلا إلى «الهيلتون»، ومن هناك إلى مقر مجلس قيادة الثورة.
 
وبانفعالات أقوى من أية محاولة للسيطرة عليها كان انفجار الشعور الشعبي لحظة أن لمحت الجماهير بطلها جثماناً داخل نعش من الخشب الزان ملفوفاً في علم الوطن ومحمولاً على عربة مدفع تجرها ستة خيول سوداء، وأصبحت العربة بخيولها نقطة في بحر من البشر، بدت محاولاتهم لاختطاف النعش من موضعه، كما لو أن كلاً منهم يريد دفن الرئيس داخل قلبه. وعندما تمسك الحرس الجمهوري المحيط بالنعش، وبجثمان بطله، كان عليَّ، ومعي الفريق أول فوزي، أن نتخذ قراراً وسط تلك الموجات من الانفعالات.
 
كان قرارنا أن نفصل بين الجنازة وبين العربة التي تحمل الجثمان، فتسير الجنازة على يمين الطريق وتمضي العربة في طريقها على يساره، واستقللت مع الفريق أول محمد فوزي سيارة مدرعة خلف عربة الجثمان، وطلب أن يسير موكب الجثمان على هذه الصورة بأقصى سرعة ممكنة، وبذلك استطعنا أن نحقق هدفين: أن نحافظ على الجثمان وننقله سليماً تماماً إلى المقبرة، وفي الوقت نفسه أن تمضي الجنازة الشعبية والرسمية بما يليق بجمال عبدالناصر في طريقها المرسوم سلفاً من التحرير إلى مسجد القبة. وأخيراً، وصلنا مع الجثمان إلى داخل المسجد، وأدى شيخ الأزهر الصلاة عليه.
 
لحظة نزول الجثمان إلى المقبرة، وهي لحظة لن أنساها على الإطلاق، كنت واقفاً وإلى جانبي أمين هويدي، وإذا بسيدة ترتدي ملابس سوداء، تبدو من فلاحات مصر، لا أعرف كيف وصلت إلى حيث نقف، تزيحني وهويدي بقوة، وتقف في مواجهة الجثمان، وتقول والحزن يعتصر قلبها وقلوب الموجودين: سايبني لمين يا ريس؟ إلى اليوم ما زلت أذكر تفاصيل تلك الحادثة، وقد بدا لي أن مصر جاءت في صورة تلك السيدة البسيطة لتسأل عبدالناصر هذا السؤال لحظة وري التراب.
 
اتفاق العرب:
سار في الجنازة 100 ممثل لمئة دولة في العالم، من بينهم 30 رئيساً و20 رئيس وزراء، ولم تر مصر، ولم يشهد التاريخ، وأظنه لن يشهد، حشداً جماهيرياً وشعبياً مثلما حدث في جنازة عبد الناصر. كانت الطائرة الهيلوكوبتر تتحرك بجثمانه في خط سيرها المقرر، وكنت أتابعها بنظري وأنا أردد بيني وبين نفسي هذا الجزء من بيت الشعر: «علو في الحياة… وعلو في الممات».
 
عاش عبد الناصر في قلوب محبيه، وظل عالياً في نظر جميع الناس، وراجعوا الشعر والنثر، وكل الكلام الذي قيل أو كتب فيه، لن تجدوه قيل في أي أحد غيره، من عام 1970 إلى اليوم لم نر ولم نقرأ مثل هذا الكلام في زعيم أو رئيس دولة، ولم نشاهد مثل هذا الحشد الذي اجتمع على طول الرقعة العربية من الخليج إلى المحيط لتوديع عبد الناصر.
 
وفي سابقة هي الأولى والأخيرة من نوعها، اجتمع قادة الأمة العربية وممثلوهم الذين حضروا إلى القاهرة، تلبية لاقتراح من الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، وأصدروا بياناً أكدوا فيها تمسكهم بنهج رائد القومية العربية، وقال البيان: «نحن قادة الأمة العربية وممثلو قادتها من ملوك ورؤساء، مجتمعون في القاهرة يوم وري جثمان عزيزنا الراحل، وفقيدنا الكبير، المقاتل المستبسل، والبطل الجسور، المغفور له الرئيس جمال عبد الناصر، وقد كنا نحمل أحزان أمتنا الكبيرة عليه، وفجيعتنا فيه وأمتنا أشد ما تكون حاجة إلى حكمته، وإلى حزمه وعزمه، وإلى صدق جلده وجهاده، ونبل معدنه ومراده».
 
كان هذا رثاء الملوك والرؤساء العرب لعبد الناصر عام 1970، ولست أعلم أن رثاء مثل هذا حدث لغيره من العرب جميعاً، والتاريخ شاهد، ولا يزال يشهد، على أن هذا لم يتكرر، وأعتقد أنه لن يتكرر...!!
شعراوى جمعة ..