د. مينا ملاك عازر
الكل في هذه الآونة من كل عام يمتشقون أقلامهم ويسنوها ويتركونها تجري على الورق ذماً أو مدحاً في مآثر ومحاسن ومساوئ ومآسي الزعيم عبد الناصر، وكأنهم يتذكرونها حين يأتي علينا ذكرى وفاته أو انقلابه أو نكسته، واسمحوا لي أن أقف موقف مغاير اليوم بعيد عن وابل الهجاء أو المدح والبكاء على الماضي أو اللبن المسكوب، وأتخذ موقف المحلل لما بعد الوفاة.

ترقب العالم أجمع تلك اللحظات التي وإن بدت مفاجئة للجميع فلا يمكن للسوفييت أن يقولوا أنها كانت هكذا بالنسبة لهم، فقد كانت التقارير الطبية الناتجة عن الفحوصات الطبية التي أجراها الزعيم قبل ثماني أشهر تقريباً في زيارته السرية التي أجراها للاتحاد السوفييتي، نعم في الزيارة التي اتفق فيها على صفقة الصواريخ المضادة الطائرات، تقول التقارير أن هذا الرجل لن يعيش طويلاً وقد علم بذلك مراد غالب سفيرنا في موسكو- ورصد هذا في مذكراته- ولو صح ما قيل بأن إسرائيل قد سممت الرئيس ناصر فهي لم تكن مفاجأة، وأعتقد في ذلك أمريكا ايضاً، المهم أنه وبرغم هذا جاءت طمأنات من رئيس وزراء رومانيا لرجال مصر ونائب الرئيس السادات أثناء الجنازة وقبلها بأن إسرائيل لن تستغل الموقف الراهن بوفاة ناصر وتفعل أي عمل عسكري خاصة وأنهم كانوا في أول ثلاث أشهر للهدنة التي انطلقت بفعل مبادرة روجرز التي اتهمت إسرائيل مصر فيما بعد بانتهاكها بتحريك صواريخها للأمام على حدود القناة.

وما لا شك فيه أن كثير من زعماء العالم نعوا الراحل وأتوا لجنازته، وتحركت الحشود المحتشدة للسير في جنازة تم تجهيزها على مهل لتكن لائقة براحل مصر الكريم بأعداد كبيرة من الشعب الذي عان بسبب إجراءاته الاقتصادية وأفعاله العسكرية، وربما كثيرين ممن حشدوا للسير في الجنازة ساروا في جنازات أقارب لهم حكم عليهم بالإعدام في عهد ناصر أو تضرروا هم أنفسهم من أفعاله أو أقاربهم يقبعون في معتقلاته، الأهم من هذا كله كان هناك صراع خفي دائر بين السادات من جانب ورجال الرئيس الذين أفلح فيما بعد السادات بغبائهم السياسي في الإطاحة بهم، فيما أسماه السادات في ما بعد بثورة التصحيح، وذلك بعد أقل من سنة من وفاة ناصر.

وقد كان الصراع يبدو من البداية في مصلحة السادات بحسب القانون والدستور الذي لم يعهد رجال ناصر احترامه فلم يضعوه في حسبانهم، لكن هيكل ذكرهم به وأعطوا الحكم للسادات، لكنهم حاولوا ألا يعطوه السلطة، فأخذها منهم في مايو من العام التالي لوفاة ناصر، بفعل أقرب بالانتحار السياسي من جانبهم.

أخيراً، رحل ناصر وترك مصر في ظن العالم أنها في مهب الريح، ولا يعتقد أحد في حنكة وحكمة السادات، لكنه فاجأهم واسترد السلطة الشرعية له، ونجح في تولي مقاليد الأمور واستطاع أن يخلق تيار شعبي مؤيد له بأفعال قد تعتبرها تمثيلية كهدم سجون ناصر وحرق تسجيلاته لكبار الشعب ومعارضيه وما شابه، ونجاحه في تشويه سيرة النظام السابق له.

المختصر المفيد كلهم يرحلون وبقت مصر.