الأنبا إرميا
فى رحلتنا مع صفحات التاريخ نعبر بالأحداث والأزمان، وأكثر ما يشُد انتباهنا فى تلك الرحلة العجيبة: هو «الإنسان». فما يمر بنا من أحداث هو نتاج لما يقوم به البشر عبر اللحظات فى كل ما يمر بهم. وفى رحلة العمر التى تطول أو تقصر، يختلف البشر فى مواقفهم، ومبادئهم، وقراراتهم؛ وما التاريخ ـ إن كان منصفًا أو لم يكُن ـ إلا ومضات من حياتهم.

واليوم، أريد أن أتوقف قليلاً؛ فكلماتى لا تجد لها سبيلاً إلا للانطلاق فى الحديث عن ابن وأخ وصديق أمين، رحل فى الساعات الأولى من الثلاثاء ٢٤/9، تاركًا العالم فى رحلة نحو الأبدية حيث السلام والراحة والسعادة: إنه الخادم الشماس، الأرثوذكسىّ السليم الإيمان، ابن مِنطَقة «الأنبا رويس»، الذى عرَفتُه منذ نُعومة أظفاره، والذى عاش حياته حافظًا العقيدة، قديرًا فى اللغة القبطية التى تعلمها من خاليه د. «فوزى صادق» ود. «فخرى صادق»، موهوبًا فى حفظ الألحان والتسبحة، حبيبًا إلى قلب «القديس البابا كيرلس السادس»: م. «چورچ فريد» مدير البث فى قناة ME Sat بمِصر وكل فروعها وأقمارها بالعالم. ربما يجهل العالم اسمه، وربما عُرف من خلال شاشة ME Sat حين كان يُذكر ضمن فريق العمل، لٰكنه كان أحد الرجال الذين عمِلوا بأمانة وإخلاص كى يقدموا تلك القناة الفضائية من أجل المِصريِّين لتصل وتمتد إلى بقاع أخرى من العالم.

بدأ م. «چورچ فريد» فريد عمله وخدمته بالقناة قبل أن تبدأ بثها؛ فهو أحد العاملين القليلين الذين بذلوا جهدًا مضنيًا ليل نهار من أجل إخراج القناة إلى النور. وما تزال ترتسم فى مخيلتى تلك الأيام والليالى التى قُضيت فى العمل بمحبة وإخاء دون كلل أو ملل من أجل إنجاح العمل؛ فقد تدرب ودرب كثيرين، وكان إداريًا ذا شخصية قوية. إنه ينطبق عليه ـ كما ذكرت من قبل- أن العظمة فى الحياة التى نعيشها أو نكتُب تكمن فى الأسلوب والكيفية التى يختارها كل إنسان لحياته، فيسير حاملاً على عاتقه رسالة ودورًا لا بد أن يتممهما على أفضل وجه.

كان م. «چورچ فريد» مثالاً دائمًا لتحمل المسؤولية وتأدية دوره على خير وجه. وفى حقيقة الحياة لا دور كبير أو صغير، بل تتكامل جميع الأدوار من أجل خدمة الإنسانية. وعلى سبيل المثال، قرأت عن الأسترالىّ «دونالد تيلور»، المعروف باسم «دون ريتشى»، الذى نال وسام الدولة الأسترالية عام 2006م من أجل إنسانيته العظيمة التى امتدت إلى جميع البشر. كان «ريتشى» يقطُن منزلاً فى مواجهة مِنطَقة غاب فى «نيو ساوث ويلز» بأستراليا، حيث تنحدر الأرض انحدارًا كبيرًا ومفاجئًا، ما أكسب تلك المنطقة شهرة واسعة فى جذب المنتحرين وازدياد ظاهرة الانتحار!!.

قرر «رِيتشى» ـ الذى كان مجندًا فى البحرية الأسترالية إبان الحرب العالمية الثانية ثم عمِل بعد ذٰلك فى المبيعات ـ أن يتابع تلك المنطقة. وحين كان يلاحظ شخصًا يقترب من الهُوة محاولاً الانتحار، كان يغادر منزله على الفور ويعبر الطريق ويتحدث إلى ذٰلك الإنسان فى محاولة منه لتغيير عزمه على الانتحار؛ فقد ذكر «ريتشى» أنه اعتاد تفقد تلك المنطقة، وإن شاهد أحدهم يتصرف بأسلوب يثير الريبة، كان يقترب إليه ويجاذبه أطراف الحديث، ثم يدعوه لتناول قدح من الشاى بمنزله. وقال «ريتشى» كلمته المأثورة: «لا يمكن للمرء البقاء ساكنًا دون تدخل، فى حين يرى شخصًا يقتُل نفسه!، يجب أن نحاول إنقاذه؛ هٰذا أبسط ما يمكننا عمله». وتذكر الوثائق الرسمية أن «ريتشى» استطاع إنقاذ قرابة مائة وستين شخصًا!، وتُعلن أسرته أن العدد يفوق ذٰلك بكثير إذ يصل إلى خَمسمائة!!، إنه نوع نادر من تحمل المسؤولية تجاه الآخرين؛ مسؤولية تنبع من إنسانية عظيمة فى أعماق أولٰئك الذين يُدركون أن لهم دورًا تجاه البشر، وإن كان مجهولاً لدى الآخرين.

تفر منى الأحرف والكلمات حين أحاول الحديث عن «چورچ فريد» الذى عمِل فى محبة وصمت، بإخلاص شديد، وتفانٍ لا نظير له، متحملاً المسؤولية فى صبر عظيم والتزام فائق. إنه إحدى الشخصيات التى يندر أن يجود الزمان بمثلها. فإليك أيها الابن البارّ «چورچ»، أقول: «إن عملك المخلص وتفانيك لَيظلان فى قلوب كل من عرفوك؛ نعم نفتقدك كثيرًا فى هٰذا العالم؛ لٰكن ليست النهاية؛ فيومًا ما سوف نلتقى جميعًا فى حياة لا تنتهى. وتظل أنت فى قلوبنا؛ إذ حقًّا: إن ما نفعله لأنفسنا يموت معنا، لٰكن ما نفعله للآخرين وللعالم يبقى خالدًا» و... والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.

* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم