كتب/ شوقي رمزى أندراوس.

مكتب جنوب البحيرة.

لم تعرف البشرية شعبًا أحب الحياة الآخرى مثل شعب مصر القديمة. فمن شدة حبهم للحياة الآخرى استخدموا لفظ “في اليوم الذي يعبر فيه الشاطئ الآخر (يقصد المتوفى)، وهو التعبير الذي كان يستعمله المصريون، لأنهم كانوا لا يحبون استعمال كلمة الموت”.(1) فلولا حب الأجداد للحياة الآخرى لما ظهرت تلك العمائر الجنائزية البهية، التي أظهرت عظمة تلك الحضارة للعالم أجمع. ومن هذا المنطلق أدركوا أنه لا حياة أخرى دون أجساد محفوظة جيدًا؛ لهذا ابتكروا التحنيط لتظل أجسادهم على حالتها حتى تُبعث للحياة مرة أخرى. ولهذا فقد “وصل اهتمام القوم بالحفاظ على الجسد سليمًا إلى تعويض الأطراف المنزوعة في أثناء الدفن بأخرى، وإلى تركيب الجبائر إلى الأطراف المكسورة بعد الموت”.(2)

لكن قبل أن أتحدث عن التحنيط يجب أن أوضح ما هي مكونات الإنسان طبقًا للمصري القديم:(3)

1- “البا” أي الروح: كانت تُستدعى لتحل في جسد صاحبها، وصَورّها على هيئة طائر برأس إنسان يشبه رأس صاحبه.

2- “الكا” القرين أو الطاقة أو الفاعلية: وكانت تتلى لها التعاويذ، وتقدم لها القرابين، حتى لا تفارق صاحبها، لهذا كانت توضع في المقبرة على هيئة تمثال يأخذ شكل المتوفى.

3- “غت” الجسد: وكان لا بد من المحافظة عليه بالتحنيط.

4- “إيب” القلب: هو مصدر كل أفكار الإنسان وأحاسيسه، وهو العضو الذي يوضع على كفة ميزان الحساب مقابل كفة ريشة “ماعت” (أي الحق والعدل والنظام)، فإذا خف القلب، دخل المتوفى الجنة، ولكن إذا خفت ريشة “ماعت” يُلقى قلب المتوفى إلى “عم-عم” الحيوان الخرافي الملتهم.

5- “رن” الاسم: وأهميته تكمن في تقديم الدعوات له، وتقديم القرابين باسمه في المعابد، وكان يتمنى أي شخص ألا يمحى اسمه من على أثر ما.

6- “شوت” الظل: يكون بديلاً عن الجسد إذا تعرض للفناء.

7- “آخ” النورانية: وكانت تُكتسب بالأعمال الصالحة، والوصول لهذه المرتبة كان أقصى ما يتمناه المتوفى.

لفظ التحنيط يأتي من كلمة حنوط وهو “كل طيب يمنع فساد الجسد، أو هو كل ما يطيب به الميت من مسك وذريرة وصندل وعنبر وكافور، وغير ذلك مما يذر عليه تطبيبًا له وتجفيفًا لرطوبته”.(4)

كانت “عملية التحنيط تجرى على الضفة الغربية للنيل من منطقة المقابر”.(5) ولا عجب في ذلك فقد كانت المقابر في مصر القديمة تقع غرب النيل الذي يرمز لعالم الأموات، كالشمس التي تغرب في الغرب، وتولد في كل صباح من الشرق. فأراد المصري كذلك أن يدفن في الغرب، ليولد ويبعث مثل الشمس مرة أخرى.

ثم يوضع “في خيمة متنقلة يطلق عليها اسم “خيمة المعبود” أو “كشك المعبود” أو في “الوعبت” و “البر-نفر” وهما بناءان مؤقتان يقامان على مقربة من الجبانة”.(6)

وعملية التحنيط تستغرق ٧٠ يومًا منذ الوفاة وحتى الدفن، وكان الكاهن المُحنِط يلبس قناع على هيئة ابن آوى (نسبة إلى المقدس “إنبو أو أنوبيس” الذي جعله المصريون القدماء مسئولًا عن حماية الجبانة).

وأما عن عدد المواد المستخدمة في التحنيط فقد ذكر بيير مونتيه أنه “لا يقل عن خمسة عشر مادة”(7)، بينما ذكر د. رمضان عبده أنهم “استخدموا نحو 13 مادة لإتمام عملية التحنيط”.(8)

ويشرح كتاب متحف التحنيط طريقة التحنيط (وهي الطريقة الخاصة بالملوك، وكبار رجال الدولة) فيقول: “ويبدأ المحنط بتفريغ الجمجمة، وهذا يحتاج إلى معرفة دقيقة بهذا الجزء من الجسم. وكانت تتم عن طريق الأنف: يدخلون فيه خطافًا يخترق قاعدة الجمجمة، ثم ينفذ لتجويفها، ويهرس المخ الذي يفرغ من الطريق نفسه. وفي أحوال أخرى يفتحون الجمجمة، ويفرغونها إن كانت هناك فتحة لسبب آخر. وكان الجسم يوضع فوق حوض مائل ينتهي بإناء، ويوضع على الجسم ملح النطرون الجاف الذي يمتص السوائل ويذيب الدهون، وتتجمع في الإناء. وكان ملح النطرون مقدسًا، وهو ملح طبيعي يستخرج من الصحراء الغربية (وادي النطرون) لا يصيب البشرة بالتلف”. ويستكمل: “وكانوا يفرغون البطن من خلال فتحة من الجانب الأيسر، ويستخدمون سكين طقسي من حجر الصوان تمسكًا بالشعائر المتوارثة، ثم تخرج الأحشاء من فتحة البطن فيما عدا القلب (لأن وجوده ضروريًا لاستمرار الحياة). وكانت الأمعاء تملأ عادة بالمر والإيسون والبصل بعد غسلها في نبيذ النخيل، ثم يملأ تجويف الصدر بملح النطرون حتى تبتل، وينشع فيها سوائل الجسم، وتغير الصرر باستمرار كلما أبتلت. ويعالج الجسم بعد ذلك بالزيوت العطرية ونبيذ النخيل، ويحشى بلفائف الكتان المشبع بالراتنج ونشارة الخشب والمر والقرفة والبصل، ومواد أخرى تكسبه رائحة طيبة. وبعد ذلك يدهن الجسد من الخارج براتنج منصهر لسد مسامه، وتخاط الفتحة التي استخدمت لإخراج الأحشاء، وتغلق فتحات الأنف والفم والأذنين والعينين، وفي بعض الأحيان تسد الفتحة ببطاقة صغيرة من الذهب عليها صورة العين المقدسة “أوچات” (لإن لها خاصية شفاء الجروح)، ويلف الجسم بشرائط الكتان المغموسة في الراتنج، مع تلاوة الشعائر والتعاويذ. أما الأحشاء فكانت تعالج وحدها بملح النطرون والمواد العطرية حتى تجف، ثم تلف بالمضادات، وتحفظ في أربعة أواني خاصة بالأحشاء تسمى الأواني الكانوبية…”.(9)

الأربع أواني الكانوبية كانت أغطيتهم على هيئة أبناء حورس الأربعة وهم:
1- أمستي: برأس إنسان، غطاء إناء الكبد.

2- حعبي: برأس قرد، غطاء إناء الرئتين.

3- دوا-موت-إف: برأس ابن آوى، غطاء إناء المعدة.

4- قبح-سنو-إف: برأس صقر، غطاء إناء الأمعاء.

وكلمة كانوبية أطلقها الإغريق على هذه الآنية، نسبة إلى معبود مدينة كانوب (أبو قير) وهو أوزير.(10)

ولقد كانت “توضع أيضًا نسخة من كتاب الموتى بين ساقي الجسد، لأنه المرشد الذي لا غنى عنه في الآخرة”.(11)

ولعل بداية التحنيط غير واضحة تمامًا، ولكن كشفت أبحاث جديدة أُجريت على مومياء تورينو أن التحنيط يعود إلى عام 3500 – 3701 ق.م وفقًا لمقال نشرته جامعة يورك في 15 أغسطس 2018، وفيه قالت د. چانا چونز، عالمة مصريات، وخبيرة في

ممارسات الدفن المصرية القديمة من جامعة ماكواري: “إن فحص جسد تورينو يقدم مساھمة مھمة في معرفتنا المحدودة بفترة ما قبل التاريخ، والتوسع في

ممارسات التحنيط المبكرة”.(12)

نهاية عادة التحنيط غير مؤكدة ربما “استمرت إلى ما بعد دخول المسيحية مصر”.(13)

عادة التحنيط لم تعد موجودة الآن، ولكنها قد أدت ما وُجدت لأجله.. المومياوات.. تلك الموجودة بالمتحف المصري بالقاهرة، وستنقل قريبًا إلى متحف الحضارة بالقاهرة أيضًا.

في النهايةأقول.. أراد أجدادنا أن يُخَلدوا، فابتكروا التحنيط، وها هم يُذكروا حتى الآن في كل حدبٍ وصوب، ليس بسبب التحنيط فقط، بل لأجلهم هم أنفسهم.


المراجع:
(1) بيير مونتيه: الحياة اليومية في مصر في عهد الرعامسة، ترجمة: عزيز مرقس منصور، الدار المصرية للتأليف والنشر، ص 431
(2) محمد بيومي مهران: الحضارة المصرية القديمة، الجزء الأول، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1989، ص 445
(3) • رمضان عبده على: حضارة مصر القديمة منذ أقدم العصور حتى نهاية عصور الأسرات الوطنية، الجزء الثاني، مطابع المجلس الأعلى للآثار، 2004، ص 294 : 299
• المجلس الأعلى للآثار – قطاع المتاحف: متحف التحنيط، الأقصر، مطابع المجلس الأعلى للآثار، 1997
(4) محمد بيومي مهران: المرجع السابق، ص 445
(5) رمضان عبده على: المرجع السابق، ص 301
(6) رمضان عبده على: المرجع السابق، ص 301
(7) بيير مونتيه: المرجع السابق، ص 432
(8) رمضان عبده على: المرجع السابق، ص 305
(9) المجلس الأعلى للآثار – قطاع المتاحف: المرجع السابق.
(10) رمضان عبده على: المرجع السابق، ص 304
(11) بيير مونتيه: المرجع السابق، ص 433
(12) https://www.york.ac.uk/…/20…/research/mummy-embalming-turin/ 26\9\2019
(13) رمضان عبده على: المرجع السابق، ص 300