مفيد فوزي
■ أنا من زمان الأبيض وأسود!

زمان المنفلوطى وجدول الضرب وكروان حيران وجفنه علم الغزل، زمان التليفون الأسود الرابض بجوارى الذى يرفع ضغطى إذا راحت الحرارة لكنه زمان «اللمة الحلوة» والفطار الجماعى والسهراية مع البيت كله نفر نفر! زمان السؤال عن الصحة والمشاركة من الجيران، زمن الصداقة حتى البكاء بعيون الآخرين، زمان زيارة الأهل ونزول السوق لشراء الرومى من باب المعزة والكرم. زمان الكنكة وفناجين القهوة ولازم بوش! زمان الصلاة دون إزعاج والود المتبادل فى الأعياد. أنا من زمن التليفزيون الأبيض وأسود وماما سميحة ودكتور جوهر وعالم البحار ومسلسل الخامسة. زمان سمارة وذئاب الجبل وجرب حظك. زمن الجنيه ذى المائة قرش والقرش ينطح قرش والمليم له شأن! زمان المزيكة تعزف فى الميادين ومظاهرات الطلبة «اليوم حرام فيه العلم»! زمن الكرة دون بيزنس، زمن الشوارع تغسلها عربية البلدية مرتين يومياً والجو صافٍ والنجوم طالعة لا تحجبها سحابة سوداء ولا زرقاء. والبوسطجى يمر على البيوت وصوته النحاسى «بوسطة». ننتظر الخير عبر الخطابات المكتوبة وتنطلق زعرودة وتطوف التهانى. الأتوموبيلات فى الجراجات، لا يقف أوتومبيل فى الشارع. وصاحبه ينظفه بنفسه، فلم تكن مهنة المنادى قد اخترعت بعد! أنا من زبائن سينما الأهلى وثمن التذكرة ٧ مليم وأفلام من عينة سفير جهنم وعدو المجتمع، ونجمى المفضل محمود المليجى فهو يقوم بالنيابة عنى فى رد البلطجة، ونجمتى هى راقية إبراهيم فهى هانم وإن كنت لا أعرف على وجه التحديد مواصفات الهانم لكنى أستريح عندما أراها وأرتوى. أنا من زمن «العدد القليل والخير الوفير». زمن المليم يشترى ثلاث حبات من الليمون قبل أن يصبح كيلو الليمون بمائة جنيه!! هل أصاب الليمون لوث؟ ربما! هل دخل الليمون بورصات العالم؟ ربما! أنا من جيل كانت الكلمة- مجرد كلمة ينطق بها صاحبها- لها قوة العقد. لم نعرف المحامى الذى يشتريه الخصوم، ولم نعرف شهود الزور بأرخص الأثمان! كانت العلاقات بسيطة والمشاكل أبسط. ومجرد كلمة اعتذار و«بوس الروس» تُحلّ المشكلة وتصفو النفوس، كنت أشعر بالود بحكم علاقات البشر والناس تراعى بعضها فى السر. فلم تكن حمى التبرعات قد ظهرت ولا تدرى هل ذهبت للمرضى أم للجيوب؟ فقد عشت زمن الود دون أجر، وزمن الرجولة بلا مقابل، وزمن الجدعنة مجاناً بلا ثمن، عشت زمن الملكية وعشت بدايات ثورة يوليو التى كانت أملاً للجيش ولم يشارك فيها الشعب، كنا صغاراً وكنا متفرجين لا مشاركين كنا نهتف أحياناً «يحيا الوفد ولو فيها رفد». كان النحاس باشا أقوى الحضور ورأيت فؤاد باشا سراج الدين ولم أقبل يده مثل مئات غيرى انحنوا يقبلون يد الباشا!

كانت الحياة نشرة الثانية والنصف ومسلسل يبدأ بصوت ديمترى لوقا والفيلم الأجنبى على القناة الثانية، كانت مطالبنا بسيطة، خرجت مظاهرات تهتف لحجازى به، «اللحمة بقت بجنيه»، لم تكن لنا تطلعات تأكلنا «ولا أحلام جزافية ولا عصرتنا رغبات أسطورية»! كانت إعلانات الأهرام المبوبة تعلن عن فيلا بثمانية آلاف جنيه وشاليه فى كامب سيزار بـ٩ جنيهات!! كان الأذكياء يشترون أرضاً بقروش وأنا كنت أعتبر الصحة أغلى!

■ زمان الموبايل، هادم اللذات!

زمان انفراط اللمة وادينى رنة والشبكة ضايعة ومفيش واى فاى وتطويع اللغة العربية ومرمطتها تحت عجلات الإنجليزية!

أول مرة، أرى العلم يكشف عن بعض أسراره. كان فى بيت سناء جميل ولويس جريس الكلبة بونتى، هكذا كانت سناء جميل تقدم أسرتها الفاضلة! كنا فى زيارة «زوجتى الراحلة وأنا» لبيت سناء جميل فى حى المنيل. ودق جرس التليفون فذهب لويس جريس إلى حيث يرقد التليفون الأرضى فوق ترابيزة عليها مفرش دانتيل أبيض ولكن لويس جريس فعل شيئاً على غير العادة، إذ التقط السماعة دون أسلاك مصاحبة وبدأ يتكلم تصاحبه نظرات ذهول ودهشة، كيف يتسنى له أن يتكلم فى قطعة حديد أو صفيح؟! وعاد لويس إلى مقعده ليخبرنا بأن الفنان جميل راتب قادم، وجلس صامتاً كأنه لم يفعل شيئاً لافتاً للنظر!! وإذا بسناء جميل ترد على تساؤلاتى وحيرتى! قالت سناء جميل إنها اشترت هذا التليفون من دبى، حيث كانت تمثل مسلسلاً وأعجبتها فكرة السماعة اللاسلكى!! وبعد قليل استجبت لمشاعر فضولى واتصلت بأخى نبيل وقلتله: اتصل بى فى الرقم الفلانى، فاتصل ورن التليفون وقام لويس جريس ثم جاء لى بالسماعة وقمت وتمشيت وأنا أرد وسعادتى لا توصف، ثم جاء أوان اختراع جديد دخل حياتنا على مهل اسمه الموبايل، وكان حجمه كبيراً ماركة فيليبس، وفيه يتكلم الإنسان بعد شحن بطاريته وكان هذا مفاجأة العصر. ثم توالت الاختراعات والأشكال وبدأ حجمه يصغر وإمكانياته تكبر حتى صار «يختصر الحياة» فى جهاز أقل من حجم كف اليد، وصارت له برامج مذهلة، ودخل جيلى عصراً جديداً أتى بما يشبه المعجزات، وعرفنا زمان الفيس بوك والإنستجرام والتويتر والواتس أب. عرفنا كيف نتصل بالدنيا فى ثوان وكيف تصلنى رسالة من ليجوس ولوس أنجلوس فى ثوان وكيف أرسل رسالة صوتية لصديق فى موسكو أو أوسلو.. وكيف أرى صورة صديقتى «فيولا» عبر الفيس تايم فى أستراليا!! وتضاءلت الرسائل المكتوبة، فقد أصبح الواتس أب يؤدى المهمة، وأصبح من السهل نقل أى صورة على شاشة الموبايل، وربما العلاج أيضاً، صارت السرعة المذهلة هى العنوان وصارت التأشيرة لدخول بلد وتذكرة السفر تأتينى عبر شاشة الموبايل!!

ومقابل هذه الصيحة من خدمات التكنولوجيا ومقابل السرعة واختصار الوقت فقد حدثت سلبيات مريرة.. حدث ما يشبه «الاستقلالية المريضة» توحد كل إنسان مع موبايله، عالمه وأسراره ومفاتيحه ورسائله، وأصبح الموبايل يحرك موتور السيارة ويفتح التليفزيون واليوتيوب بضغطة ويغلق السيارة بضغطة ويفعل كل شىء.. ببرنامج! اختلى كل إنسان بموبايله وأصابعه تنقر فوق شاشته تنقل له الدنيا، ودخلت مواقع التواصل دنيا السياسة وصارت تمثل الجيل الرابع وتثير وتحرض وتزور وتزيف وتفضح. وهكذا ضربت التكنولوجيا السلام الذى ننشده فى مقتل، وأصبح عدوك يستطيع أن ينفذ إليك وإلى معلوماتك من خلال البلوتوث! أما على الجانب الاجتماعى، فلم تعد هناك أسرة تجتمع حول غداء أو عشاء، وهو هادم اللذات، فاللمة صارت تراثاً بعيداً! وأصبح الجلوس مع الحفيد ضرباً من الخيال.. والحوار مع ابنتى التى تسمعنى وأصابعها تفر التويتر ثم تقلب الفيس بوك ثم الواتس أب. وأحياناً يصل حجم الغيظ من علاقة الفرد بموبايله حداً من الرغبة بإمساك الموبايل وإلقائه من الشباك. من هنا، فقدت التواصل الآدمى حتى صرت «مفلوق نصين» صرت غريباً على هذا الزمن، أحياناً أصرخ وحدى.. «أيتها التكنولوجيا، اذهبى، لتعود لنا حياتنا البسيطة وهناؤنا أو لمتنا وقعدة الشاى والغدا على السفرة معاً! اذهبى ليعود لنا البوسطجى والرسائل الزرقاء! اذهبى، لنعرف معنى اللهفة وطعم الاشتياق! اذهبى ليعود لنا التأمل وعناق الطبيعة والبطء العذب! اذهبى لتعود اللمة المفتقدة وعبدالوهاب القديم وغرف الفندق البدائى والإضاءة بالشموع! اذهبى ليعود لنا معنى الوئام بعد خصام! ولنهفو للانتظار الطويل حول حافة بئر الآمال! اذهبى ليعود الرقى والاحترام والتسامح.

لكن عقارب الساعة لا تعود إلى الوراء يا ولدى!
نقلا عن المصرى اليوم