منى أبوسنة
قرأت بمزيد من الغبطة والسرور المقال المنشور بمجلة «صوت الأزهر» بعنوان «ترحيب بالحوار»، والذى يتضمن ردًا وتعقيبًا من مجمع البحوث الإسلامية على المقالين اللذين حررتهما، واللذين نشرا بجريدة «المصرى اليوم»، الأول بعنوان «ابن رشد فى رحاب الأزهر» بتاريخ ٨/٨/٢٠١٩، والثانى بعنوان «هل يسمح شيخ الأزهر؟» بتاريخ ١٩/٨/٢٠١٩.

وسبب غبطتى مردود إلى، أولًا: ما تضمنه الرد من تقدير واحترام لشخصى ولمضمون مقالى الذى وصف بـ«الموضوعية والإيجابية»، وأنا أشرف بهذا التقدير من قبل مجمع البحوث وأعضائه الأجلاء، ثانيًا: تقديرهم لما أثاره مقالى من حراك فكرى. وكذلك دعوتهم إلى استثمار هذا الحراك فى تبادل الحوار واستمراره فى سياق المواجهة للفكر الداعشى الذى يُعد قضية خطيرة تهمنا جميعًا - كأمة عربية مسلمة - لا على صعيد المواجهة العملية العسكرية فحسب، بل بالأخص على صعيد المواجهة الفكرية، وأن الإمام أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، فى مقدمة المعنيين بهذه القضية. على حد ما جاء فى مقالكم. وجدير بالتنوير أن الحوار قيمة حضارية وآلية متحضرة من أجل تنوير جماهير المؤمنين وحثهم على إعمال العقل فى أمور دينهم ودنياهم، وهو شرط ضرورى من شروط التحضر والتقدم والتنمية. وقبل أن أستطرد فى تناول محتوى تعليق مجمع البحوث الإسلامية على مقالى أود فى البداية أن أطرح مفهومى عن الحوار. فالحوار تلاقٍ بين العقول حول موضوع أو أكثر، بهدف تبادل وجهات النظر، وهو يختلف عن المناظرة التى تقوم على مقارعة الحجة بالحجة بهدف ترجيح رأى على آخر، كما أن الهدف من الحوار لا يقف عند حد تبادل الأفكار والآراء فقط، لكنه يتجاوزه إلى هدف أبعد وهو استعداد الأطراف المتحاورة ورغبتهم فى التطور والنمو من خلال الاستجابة للأفكار والاستعداد لتعديل أو تغيير وجهة نظرهم، وهذا الاستعداد من شأنه أن يصل بالأطراف المتحاورة إلى الاتفاق على مواصلة الحوار من خلال طرح مشروع فكرى ثقافى يتم من خلاله تأسيس تيار حضارى عقلانى يقف فى مواجهة فكر الإرهاب الأصولى ويقضى عليه، أما الحوار المنشود تبادله فهو يدور حول قضية محورية هى قضية التأويل. وهى قضية بطبيعتها تتسم بالإشكالية، وحيث إن الإشكالية بطبيعتها تنطوى على تناقض. فإن التناقض الكامن فى قضية التأويل هو بين فريق من الفقهاء الرافضين التأويل، وعلى رأسهم ابن تيمية، وفريق آخر يدعو إلى التأويل ويحث عليه من خلال إعمال العقل، وعلى رأس هؤلاء الفيلسوف ابن رشد صاحب نظرية التأويل المجازى. أما الهدف من تناول هذا التناقض بالتحليل والنقد فهو مجاوزته من خلال التركيز على الإيجابيات الكامنة فى التناقض حتى يتسنى للمتحاورين الاتفاق على فكر جديد يلاشى الصراع السلبى بين الأفراد مع الاحتفاظ بتعدد واختلاف الرؤى والحجج.. ومن هذا المنطلق ومن أجل استمرار الحوار، فأنا أتفق تماما مع ما جاء فى المقال من العبارات الآتية: «من الخير لنا أن نستثمر كل الجوانب الإيجابية فى تفكير علمائنا ورجال فكرنا جميعًا، ومنهم هؤلاء الثلاثة الأعدقاء الغزالى وابن رشد وابن تيمية، وربما كان الأخير أبعدهم عن الاعتدال، وعسى أن يؤدى هذا الحراك الفكرى الذى يثيره هذا الحوار العلمى أن نزداد معرفة بتراثنا وعلمائنا وبمؤسستنا أيضًا».

كما أنه تأكيدًا على استجابتى وتدعيمى للحراك الفكرى، أعبر عن شكرى وتقديرى للفت انتباهى إلى أن مناهج الأزهر الشريف تحتوى على أفكار كل الاتجاهات الفكرية، كما جاء فى المقال «الطابع فى الأزهر - مع دراسته لكل التيارات الفكرية إسلامية وغيرها - أزهرى بمزاج صوفى، ووسطى معتدل سنى: وهو بهذا لا يجعل لابن تيمية مكانة خاصة فى مناهجه حتى يضع ابن رشد إلى جانبه»، ويضيف المقال «إن محل ابن رشد فى مناهج الأزهر مقدم على ابن تيمية». وبذلك أرجو أن يزول الأسف الذى عبر عنه المقال فى معرض الحديث عن التناقض بين ابن رشد وابن تيمية.

وهنا آتى إلى ختام المقال وأركز على السؤال الذى يثيره وهو: «كيف نوظف فكر رجالنا هؤلاء وأفهامهم وأنظارهم فى النصوص الدينية فى مواجهة الغلاة المعاصرين وفى مقدمتهم داعش؟».

وأقترح أن تبدأ الحلقة الثانية من الحوار فى محاولة الكشف عن بعض الأجوبة لهذا السؤال العمدة..

وفى حال الموافقة على اقتراحى هذا، أود أن أطرح مؤشرًا قد يعيننا على الكشف عن الأجوبة، وهو كالآتى: طرح إشكالية تقوم على الحوار المتبادل وتدعم الحراك الفكرى وتعزز من الإيجابيات، انطلاقًا من اتجاه مجمع البحوث الإسلامية- كما جاء فى المقال- نحو التقليل من شأن التناقض الحاد، إلى حد النفى، بين من يسميهم المقال الأعدقاء، ومن ثَمَّ فأنا أستجيب باقتراح:

أولًا: اعتبار هذا التأكيد فرضية تحتمل الصدق وتحتمل عكسه حتى يثبت بالدليل الفعلى صحته، ثانيًا: الهدف هو إزالة العداوة، وتأييد التماثل والتشابه بين الأعدقاء كما يسميهم المقال، فتزول العداوة وتبقى الصداقة، ثالثًا: تبنى فرضية جديدة تقوم على مدى إمكانية تحويل التناقض الصورى - من وجهة نظرى - بين كل من الغزالى وابن رشد وابن تيمية، بحيث لا يتم استبعاد أى منهم، بل محاولة إيجاد صيغة جدلية تؤلف بينهم.

مثال: الغزالى يرفض مبدأ العلية أو السببية، بينما ابن رشد يقرر أن «من رفع الأسباب فقد رفع العقل». فهل يمكن تطعيم فكر الغزالى الصوفى ببعض من عقلانية ومنطق ابن رشد حتى لا نحذف السببية من منهج التفكير؟!.

مثال آخر: حيث إن ابن تيمية يرفض المجاز ويُحرم التأويل، وهو خطأ أقره المقال فى سياق الحديث عن علاقة ابن تيمية بالمعتزلة والأشاعرة، فهل فى الإمكان إيجاد صيغة للتلاقى بين مفهوم ابن رشد عن التأويل المجازى وفكر ابن تيمية من خلال مركب آخر مشترك وهو فكر المعتزلة مثلًا، مما قد يساعد فى إزالة التناقض الصورى بين ابن تيمية وابن رشد ويحوله إلى تناقض جدلى قابل للتطور؟!.

تناول تلك الإشكالية بالبحث والتحليل ليس مهمة بحثية علمية فقط، ولكنها ذات أبعاد سياسية فى المقام الأول، حيث إنها تنشد مواجهة الفكر الداعشى بتأسيس فكر مغاير يقوم على فهم جديد يسهم فى تطوير التراث الفكرى الفلسفى الإسلامى ويجعله مواكبًا لمتطلبات العصر، وهذا فى رأيى هو الطريق الوحيد الذى يقضى على فكر الإرهاب الأصولى. وفى هذا السياق أود أن أشير إلى أن إطلاق لفظ «فوبيا» على الفكر الداعشى يمثل بالنسبة لى تناقضًا فى المسار المنطقى للرد، فلفظ «فوبيا» كما هو معرف لديكم هو خوف مَرضىّ ناتج عن توهم أشياء أو ظواهر لا وجود لها فى الواقع، وحيث إنكم أشرتم عدة مرات إلى أن الفكر الداعشى الذى يمارس الإرهاب أشبه بفكر الخوارج ولا يتسق مع مسار التراث الفكرى الإسلامى، ومن ثم وجبت مواجهته، لذلك فأنا أرى أنه من الأفضل استبعاد لفظ «فوبيا».

كما أرجو أن تكون تلك المحاولات البحثية ذات البعد السياسى العالمى هى الأساس لمواصلة الحراك الفكرى فى إطار مشروع حضارى مشترك يقوم على الدعوة إلى تأسيس تيار الرشدية العربية الذى أنتمى إليه إلى جانب باقة من الزملاء الأكاديميين المرموقين، حيث أسسنا معًا «منتدى ابن رشد» منذ عام ٢٠٠١، ذلك بهدف تأسيس تيار الرشدية العربية المشار إليه آنفًا.

وختامًا، أُرسل تحياتى وتقديرى إلى أعضاء مجمع البحوث الإسلامية فردًا فردا، وإلى فضيلة الإمام أ.د أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف.