أقسم بالله، لولا البقية الباقية من مخزون الثقافة المصرية، وما فضل منها وثبت، وما ركز وغرز فى أرضها، لكنا نهيم الآن فى صحراء الجهل والعجز والتنبلة، ولولا ما رسخ وبقى ورسا فى عقولنا وقلوبنا وحافظنا عليه وأمسكنا بتلابيبه، ومنعناه من الهجرة والهجر، لغزتنا ثقافة البدو غزواً كاملاً، وما تركت بيتاً أو حارة إلا واحتلتها، وارتدى الرجال النقاب. ويمين على يمين، لولا رصيدنا التاريخى وآثاره المستقرة من عهودنا السابقة فى كتب على أرففها وقصص وحكايات وروايات ما زالت على حافة الذاكرة، ومكتبات ما زالت أطلالها باسقة، وموسيقى وأفلام ما زالت ناهضة ومسموعة ومحفوظة، لكنا كالدواب لا ينقصنا سوى الذبح فى العيد الكبير. ورحم الله العقاد وأم كلثوم والمازنى ومحفوظ والحكيم وعبدالوهاب وعبدالصبور وحمدان وزكريا وغيرهم، فما زالت أنفاسهم تلاحقنا وأرواحهم تحوم حولنا، وأقلامهم ما زال صدى صريرها نسمعه فى آذاننا، ونعيش على ما ورثناه منهم ومن أجدادهم، ولولا كل هؤلاء لكنا الآن نقف على نواصى الشوارع نتسول بعضاً من ثقافة الأمم نقتات بها ونسد جوعنا، ونحفظ بها وجودنا، دون تكاثر أو تناسل كرغيف الخبز بلا «رجوع».

وأحلف لو أن أمة من الأمم عزلوها كما عُزلنا، وخربوها كما خُربنا، وجرفوها كما جُرفنا، وجففوها كما جُففنا، وتآمروا على ثقافتها كما تآمروا عليها، أو أهملوها كما أهملناها، لماتت من سنين، وجفت ينابعها العذبة، وتصحرت خضرتها، وبارت أرضها، وأشفق الناس على تاريخها، وترحّم الناس على عبادها، وكانوا جميعاً فى خبر كان، إلا أن الحياة ما زالت تسرى فى عروقنا، والأنفاس تتزاحم من ضيق مخارجها، ولا حافظ ولا معين لنا من الضياع والانهيار وفقدان الهوية إلا هذا القليل الذى نعيش عليه، وهذا الرصيد الذى يحفظنا من الإفلاس.

يا وزارة الثقافة، أين الثقافة؟ وفى أى سوق تباع وتشترى؟ أين مسارح الدولة والمكتبات العامة والمتنقلة ودور الثقافة وبيوتها والأمسيات الثقافية والبرامج والأفلام، والترجمات المنتقاة؟ ما هى خطة الوزارة فى الحفاظ على اللغة، وعلى الهوية المصرية وعلى القيم والمعارف، وفى الحفاظ على التماسك المعرفى والثقافى والخصائص الاجتماعية؟ الثقافة يا أيها القائمون عليها هى الحضارة غير المادية كلها، والتى تحيط بالإنسان من كل جانب، وتحاصره من كل اتجاه، ويراها من كل زاوية تقع عليها عيناه، من قيم ومُثل ومعرفة وأفكار وعادات وأعراف وأخلاق وأذواق ولغة وسلوك وكلام وأكل وشرب ومرور وتحية وسلام ومعاملات، وكل ما يشمل حركات الناس وسكناتهم وأنفاسهم من صباحهم حتى مسائهم، من صحوهم حتى منامهم، سلامهم وكلامهم، حتى مضاجعة نسائهم، وخلفهم ونسلهم وضحكهم وبكائهم، هل عرفتم الآن حجم المهمة، واتساع نطاق العمل، وخطورة الواجب، كل شىء فى حياتنا ثقافة ومعرفة وسلوك، ولنجعل السؤال أكثر إنصافاً وعدلاً، أين دور الدولة الثقافى على الساحة فيما قرأنا وعرفنا؟ وماذا قدمت الوزارة من برامج لمحاربة الفكر الإرهابى المتطرف؟ وما هو الملاذ والملجأ والحصن الذى يأوى إليه الشاب فى بلادى إذا طاردته هذه الفئة الضالة الباغية، وغرته ثقافة التكفير والجهاد؟ وإذا بحث عن بديل ثقافى آخر يحميه من هذه المطاردات الدخيلة المرفوضة، أين بابه أو طريقه وأين سبيله؟ هو فريسة لهذا الفكر، إذا لم يجد صاحبنا مصدراً ثقافياً سهلاً ورخيصاً ومتاحاً، وإذا ما دار بعينيه يميناً أو شمالاً وجده عنده، وإذا ارتمى فى أحصانه كان الحصن والسند والدعم. أتدرون سبب هذا الشتات المعرفى، وهذا الهوس الفكرى غير المنظم، وضياع الحقيقة بين الناس، وتباين المناهج والسبل والطرق الفكرية، والحيرة فى اتخاذ القرار؟ هو غياب المنهج الثقافى والمعرفى الذى يرسم للناس خطوط الطول والعرض والالتزام والانضباط ومعرفة الفواصل القاطعة بين الحق والضلال والصح والخطأ فيلزم ويتجنب. أتعلمون أن غياب ثقافة الاختلاف سبب ما نحن فيه من مصائب وكوارث وشقاق وخصام؟ واختفاء ثقافة احترام الآخر وعقائده وديانته سبب رئيسى فى انتشار الفكر التكفيرى والإقصائى.

هذا المواطن الذى تركناه بلا ثقافة، بلا غطاء فكرى، أو حماية مجتمعية كان فريسة سهلة ولقمة سائغة لكل ما جاءونا به من تطرف أو انحراف، وهو معذور ومغلوب على أمره، فلو كنا حافظنا عليه، وعلّمناه وثقفناه ورويناه وأشبعناه، ما باع نفسه للغير وما وقع وما فسد وما عطب، إلا أنه قد وجدها أبواباً مفتوحة ومدفوعة وسهلة ويسيرة فسمى ودخل، ولو كان بجوار هذه الأبواب أبواب أخرى وعليها حراسها ومرشدوها ما ضلّ وماتاه.

يا وزارة الثقافة، مطلوب خطة مدروسة علمية يشترك فيها علماء مصر الأجلاء من مثقفين وكتّاب وشعراء وخبراء من كل التخصصات، لوضع خطة ثقافية قومية عاجلة، ننتشل فيها شعباً بأكمله على وشك أن ينفد رصيده الثقافى، ويصبح مجهول الاسم والعنوان، ساعتها لن ينفع عض أصابع الندم أو البكاء على ما فرطنا فى حق هذا الشعب.

ورحم الله يوماً كانت مكتبة المدرسة تحمل على أرففها أمهات الكتب، وكانت حصة المكتبة من أحب الحصص إلى نفوسنا، وحصص الموسيقى كانت غذاء لأرواحنا الصغيرة المرهفة، وعلى مسرح الدولة والفرق الشعبية والمسارح والمكتبات المتنقلة وقصور الثقافة غيرها كثير، كم كان البناء قوياً وصلباً ومحافظاً، رحمة الله على هذه الأيام.
نقلا عن الوطن