سليمان شفيق
لا أستطيع أن أطيل النظر فما أراه ليس جميلًا أو مبهجًا، بل منفرًا ويدعو للحزن والبكاء ولعن يوم المولد كما يجب أن يفعل كل ذي عقل.
 
ما أشد قبح ما أرى، أرغب في تحطيم تلك المرآة، اللعنة على المرايا الصادقة، ترهلات على جانبي خصري، وجهي لم أعد استطيع تحديد ملامحه بدقة فما طرأ عليه من تغيرات جعله أشبه بعجينة البيتزا.
 
انتفخت بطني وصار لي (كرش) هائل لا يقل عن ما أمتلكه أحمد حلمي في فيلم (اكس لارج). هذا ما أصبحت عليه الآن بعد ما كنت صحيح البدن، قويًا ممشوقًا وذي عضلات بارزة متناسقة، ولكن لا ينبغي لي أن أتعجب فما حدث ليس بالغريب أو اللامنطقي، فتلك نتيجة منتظرة للانقطاع عن حمل الأثقال والملاكمة بعد ممارسًة جادة ومنتظمة.
 
بدانة وثقل حركة وضيق تنفس ولهاث ينتج عن أقل مجهود، وفقدان صلاحية الارتداء لكثير من ملابسي، ولكن كل ما سبق يعد من صغائر الأمور بل من التوافه مقارنًة بقضيتي الرئيسة، فلا ألم مهما كان مقداره يفوق ألم الخوف والحيرة مجتمعين، فيوم اللقاء قد أقترب وليس باق من الزمن إلا أقل القليل ويطرق الباب، الوقت ينزف بغزارة ولست بقادر على إيقاف النزيف.
 
نعم أرغب بل اشتاق إلى رؤيتها ولكن وأنا على قمة هرم التألق والتأنق وليس على تلك الحالة الرثة البائسة التعسة.
 
كم أحمد الله على قرارها بالعودة في فصل الصيف وليس الشتاء، فبالرغم من كراهيتي الشديدة لفصل الصيف بسبب الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وأصوات الزفير المتكرر، ورائحة العرق النفاذة- خاصًة في وسائل المواصلات حيث الحميمية الشديدة وتلاصق الأجساد واحتكاكها بشكل مقزز يبعث على الاختناق وكراهية النفس والآخر والحياة- لكن عودتها وجسدي على تلك الحالة من سيادة الترهل وعدم التناسق كانت السبب الرئيس في الحمد وتغير التفاعل والتفضيل.
 
ففي الشتاء كنت سأضطر إلى ارتداء الكثير من الملابس للوقاية من أثر البرد القارص، فأصير ضخمًا بشكل مخيف وقريب الشبه بوحش فرانكنشتاين في أسوء حالاته، لذا فعودتها في فصل الصيف جاءت مناسبًة تمامًا، فلن اضطر لارتداء إلا ما هو ضروري، وربما نتيجة التعرق المستمر أفقد بعض الكيلو جرامات وأصبح أكثر نحافة ومطابقة لمعايير القبول والجمال الرائجة.
 
منذ أن سافرت وأنا لا أحيا إلا على رجاء اللقاء الثاني، يدعمني الأمل المقارب لليقين في نقاء وقوة ما بيننا من رابط عقلي ونفسي.
 
حتمًا لن تمر بضع ساعات على عودتها لمصر، بل وربما بضع دقائق، حتى تتحدث معي عبر الهاتف لتسألني عن أحوالي وتطلب رؤيتي، تلك ليست أمنيات بل حقائق لا تقل حتمية صحتها ووجوب حدوثها عن القوانين والسنن الكونية، فما بيننا أقوى من رابطة الدم، بل أقوى من العشق ذاته، ما يجمع بيننا هو الصداقة، صداقة بين أرواح حية حقيقية معذبة، أرواح أدركت ذاتها والحياة وابتليت بالوعي فانفصلت عن قطعان الروث وأكلي الجيف وجموع الناهقين بالفطرة ممن تمتلئ بهم جنبات الأرض وينسب إليهم الانتماء للإنسانية دون وجه حق.
 
لعبت الصدفة _ أو النصيب وربما الحظ- دور البطولة في تعارفنا، كنت في بداية عهدي بالعمل في مجال التنمية الثقافية والتدريب على الكتابة، وتحقيق ما حلمت به منذ الطفولة وهو الانضمام إلى الوسط الأدبي والثقافي بشكل عام- مع الوقت أدركت بلاهتي، وأن تصوراتي البريئة الحالمة كانت خيالات ومحض هراء، فالوسط الأدبي والثقافي قد أنتن وزكمت رائحته الأنوف، فلا يسوده ويتحكم فيه إلا الكذب والزيف والإدعاء وتبادل المصالح وصلات القرابة والرشاوى المالية والدعائية بل وأحيانًا الرشاوى الجنسية –ونجحت بالفعل في ذلك الوسط ولكن دون أن أفسد أو أتلوث.
 
رأت إعلان عن دورة تدريبية كنت أنا القائم بها، تحدثت معي وطلبت الحضور، وافقت ورحبت بذلك، فأتت هي والبعض من أصدقائها، أعجبت بذكائها وروحها المرحة وعيناها المتقدة بالنهم للحياة وابتسامتها التي تقطر جمالًا وعذوبة، كنت استمتع بما تفعله أحيانًا من شغب أثناء المحاضرة وصراعها مع إحدى المتدربات، بل وحتى مع صديقتها المقربة- تلك الصديقة تستحق أن أذكرها بكل الخير فقد كانت جميلة المظهر والجوهر وإنسانة بمعنى الكلمة- فقد كانت تتمتع بحس الدعابة الشرسة اللاذعة.
 
تشاركنا الأحزان والأفراح، أحببتها كأخت لم تلدها أمي، صار بيننا رابطًا عقليًا ووجدانيًا، ولكن أسرع الفراق الخطى، وكان سفرها إلى قلعة الرأسمالية حجرًا ثقيلًا أضافه القدر إلى جبل ألامي وأحزاني، ذلك الجبل الذي أحمله على ظهري منذ مولدي، وربما سأظل أحمله إلى يوم الممات.
 
لم يخلص لي صديق مثل الحرمان، لم أفتقده يومًا، رفيقي الدائم وتوأمي الملتصق.
 
جئت للعالم دون اختياري، لم استشر، ثمرة سيئة الحظ قطفت من شجرة العدم وألقي بها في روث الحياة بسبب ممارسة رجل وامرأة للجنس، نتاج فعلة حمقاء لحيوان منوي لعين قام بتخصيب بويضة خسيسة، أشبعوا غرائزهم وحصدوا المتعة واللذة ودفعت أنا المسكين الثمن.
 
لم أشعر يومًا بحب الوالدين أو الأخوة، العلاقات في أسرتي كانت محكومة بالكراهية والأنانية الشديدة والقهر والخنوع – ماعدا أخي فقد كان طيب القلب وعطوف ولكن لا يدوم شيء على حاله – كم تمنيت أن تتمكن البشرية من اختراع مرحاض نلقي به ما نكره من أشخاص وذكريات.
 
طفولتي كانت قاسية وشديدة البشاعة، لا أذكر منها إلا الألم والذل والإيذاء الجسدي لأي سبب، الضرب بقطع خشبية وحديدية، والأسوأ السب والتحقير أمام أخوتي والأقارب والجيران بل وأحيانا حتى أمام أصدقائي.
 
لم يمحى من ذاكرتي دعائي يوميًا لله وأنا مازلت في سن العاشرة أن ينتشلني من أتون عذابي المستعر ويريحني ولو بالموت، ومحاولاتي المتكررة للانتحار بحثًا عن خلاص، وأنا في سن الحادية والثانية عشر، تلك المحاولات التي مازلت أعاني من نتائجها حتى الآن.
 
عشت غريبًا عن جسدي بالفكر والفعل منذ طفولتي، امتلكني المرض وصرت كهلًا دون أن أبلغ سن الأربعين.
 
ذهبت حياتي بأكملها هباًء منثورا، ضاعت مراهقتي في الاكتئاب والهوس الديني، حرمت من الزواج وخسرت من أحببتها وأحبتني، لم أسعد بإنجاب طفل أرى الفرحة في عينيه حين يراني، يناديني أبي فأسرع لاحتضانه واستمتع بدفء محبته، من أصعب الأمور أن تشتهي الموت ولكن تمنعك عنه مهابته، الموت قاتل رحيم وعطوف وليس كما هو رائج من رؤى وتصورات دعمتها مؤلفات كثيرة للعديد من الأدباء والمفكرين، فالموت يأتي على حين غره، يأخذ الروح مرة واحدة، ولا شيء بعد ذلك، ولكن الزمن هو القاتل المتجبر، بل أبشع القتلة، لا يجد لذته إلا في القتل ببطء شديد، حيث يوهن الجسد ويذيب الروح مرات ومرات.
 
الأصدقاء تساقطوا كالعادة بفعل الملل وتبدل الأحوال وانقضاء المصالح المشتركة، الأخوة والأخوات ظهرت أنيابهم علانية بعد أن أسقط الزمن أقنعتهم وكشف حقيقة ما هم عليه، الحبيبة رحلت ولن تعود، ألقت بي على قارعة الطريق جريحًا محطم القلب كسير الفؤاد بعد أن سحقنا الفقر وبصق على أحلامنا كعقاب على ما اقترفناه من جرم حين اعترفنا بالأمل وسرنا وراء الحلم، تلك كانت سقطتنا، والحياة لا تحمى المغفلين ولم ولن تؤمن يومًا إلا بقوانين السوق، فالحب والفقر عدوان لدودان إن اجتمعا صدفة أو بالخطأ، لا مفر من تنافر وصدام عنيف ينتهي بانتصار الفقر كما هي العادة.
 
الفقير ممنوعة عنه الأحلام، أحلام الفقراء شهوات محرمة، وتمنياتهم أوهامًا ضارة، صروحًا شيدت بلا أعمدة، كلمات كتبت على سطح نهر.
 
حتى الصحة والقوة اللتان كنت أمتاز بهما صارا في انحدار مستمر، غربة وحزن ودموع والقادم أسوء، فهذه سنة الحياة ولا مفر من الركوع تحت نصل مقصلتها.
 
سافرت مع وعد بالعودة بعد عام واحد، انتظرت العام بل وعدة أعوام أخرى ولكنها لم تعود.
وعدًا كاذب كآلاف الوعود، أصاب الزيف كل شيء، الوعود والأفكار والمبادئ والقيم، كل شيء، أصاب حتى البشر ذواتهم، لقد صار الزيف خبزًا عالميًا، صار سيدًا متسلطًا وحكمًا بل ومعبودًا.
 
أشد ما كنت أخشاه أثناه المرض الذي رافقني – ومازال – طيلة الفترة الماضية، هو الموت والتحول لجثة باردة عفنة، سماد للأرض ومأكل للديدان، دون أن أسعد برؤيتها والحديث معها في شتى الأمور كالسابق، ولكن ها هي تعود خلال أيام.
 
لقد أخذت منها وعدًا قاطعًا خلال أخر حديث لنا بعد انقطاع طويل أن أكون أول من يراها فور العودة.
 
لقد عاودتني الأوجاع مجددًا، صداع وألم في العينين وارتفاع في سرعة ضربات القلب، كبدي يؤلمني مجددًا كأن سكين اخترقته، لابد من الذهاب لتناول الدواء، أقصد الأدوية.
 
كم الساعة الآن؟ سأعرف من توقيت الهاتف النقال.
 
إنها الخامسة مساًء.
ولكن ما هذا ؟ التاريخ غير صحيح، يجب أن اضبطه.
أين صحيفة اليوم؟ ها هي أسفل المنضدة.
 
اللعنة على يوم مولدي، التاريخ المكتوب أعلى الصفحة يطابق التاريخ الذي رأيته في الهاتف!! يكاد رأسي أن ينفجر، ألهي يا ألهي لماذا تركتني؟ أغثني وارحمني يا أرحم الراحمين.
 
لقد اقتربت جدًا من الخلل العقلي، أرغب في الضحك، ليس الضحك العادي البسيط بل الهيستيري، أريد أن أضحك حتى استلقي على قفاي، لا بل أرغب في الموت ضحكًا، فما أجمل تلك الميتة، عشت تعيسًا مكروبًا ونهايتي كانت الموت وأنا أطلق ضحكات تبصق على البشر والعالم والحياة وتلعنهم أجمعين.
 
المؤدي لرغبتي في الضحك الهستيري هو يوم العودة الذي لن يجيء أبدًا، فالعودة قد حدثت بالفعل منذ أكثر من عشرون يومًا.
مر أكثر من عشرون يومًا دون مكالمة هاتفية واحدة!!.
 
تضرب رأسي عشرات وعشرات الأسئلة، هل الظمأ للاهتمام جعلني أختلق الأكاذيب ثم أصدقها كحقائق؟ هل انتظرت مخلصًا وهميًا كما تفعل الشعوب الحمقاء الغارقة في مستنقع البلادة؟ هل كان عقلي قطعة جبن شهية لفئران الذكرى؟
من الواضح الجلي أنني كنت محطة انتظار مؤقتة، مجرد جسر للانتقال، قطعة من القماش المهترئ يسير عليها الناس كي لا تتسخ أقدامهم.
 
لقد انتظرت الماء فسقيت العلقم، ألقتني في مزبلة الذكريات بعد أن صارت من علية القوم واعتمدت كترس في آلة الكسب، صرت قزمًا في عينيها، نفاية بشرية تأنف أن تنظر إليها، ليس عليها أي لوم بل أنا فقط الملوم.
 
لست رجلًا بل صرصار أبله ضعيف، أضحوكة ومادة للتندر، لا أملك إلا أحلامي الساذجة السخيفة، والأحلام صارت عملات مزيفة ممنوعة من الصرف.
 
أنا المذنب وليس غيري بقبولي لممارسة دور الكلب الأجرب الوفي، من يفني ذاته في حماية من يحب، بينما المحبوب لا يكن له إلا السأم والنفور وينتظر فقط أن تنتهي الضرورة لوجوده فيتركه بلا معين أو نصير، أو يرديه قتيلًا بلا رحمة ثم يرحل دون أن يودعه أو ينظر إليه حتى مجرد نظرًة أخيرة.
 
تلك نهاية المطاف، أجلس منزويًا في غرفتي، وحيدًا منبوذًا مطرودًا من رحمة البشر، يحلق فوق رأسي طائر الموت، تتأرجح سكينة كالبندول في اشتياق لجز عنقي والتخصب بدمي المسفوك، يسيل الدم، تدوسه الأقدام، تبتلعه الأرض، فقط طرفة عين وينمحي الأثر.
( النهاية(