حلمي النمنم
حين أبلغ الله المؤمنين بوجوب صيام رمضان، لفت انتباههم إلى أنهم ليسوا بدعا فى ذلك، الصيام عرف قبل ظهور الإسلام والمسلمين، وفرضه الله على من سبقهم، تحديدا اليهود والمسيحيين، أو الديانات الإبراهيمية، فى الآية 183 من سورة البقرة نقرأ قوله تعالى: «يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم..».

وإذا كان النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) وصف نفسه بأنه بعث «متمما لمكارم الأخلاق» فهذا يعنى أنه جاء مواصلا طريق من سبقه من أنبياء الله، بدءا من إبراهيم عليه السلام، مروراً بموسى ثم عيسى بن مريم، ومن ثم يكون من الطبيعى أن يأتى الصيام فى الإسلام كما جاء من قبل فى الديانات السابقة، الفارق هو فى حدود ذلك الصيام ومداه الزمنى، فى الإسلام ثلاثون يوما، هى مدة شهر رمضان، ويكون بالامتناع التام عن الطعام والشراب من أذان الفجر حتى أذان المغرب، والمعنى هنا أن الصيام يأتى إضافة إلى أمور أخرى مؤكدا على أن الأديان تتكامل وتتمم بعضها، ومن ثم لا مبرر للخلاف والصراع أو التنابذ بين أبناء ومعتنقى الأديان المختلفة، ذلك أن الأصل فى الحياة وفى الكون هو التعدد والتنوع، بهدف إثراء الحياة وليس الإقصاء والتباعد.

ومن ثم الجفاء والكراهية؛ ولو أراد الله أن يكون الناس على دين واحد، لاكتفى بإرسال نبى واحد، مرة واحدة عبر مراحل التاريخ، وحين يردد المصريون فى حياتهم العامة عبارة «موسى نبى، عيسى نبى، محمد نبى؛ وكل من له نبى يصلى عليه» تكتشف أن هذا هو الإدراك والفهم العميق لمعنى النبوة والدين؛ الصيام أحد الواجبات والفروض التى تؤكد هذه المعانى كلها، وبنص القرآن الكريم فى سورة البقرة.

الصيام ليس فى الأديان السماوية فقط، ولكنه فى الأديان الوضعية أيضا، وكل على نحو خاص؛ وهناك أشكال مختلفة من الصيام. القرآن الكريم اعتبر الامتناع عن الكلام لفترة محددة صياما، كما فى قصة السيدة مريم العذراء حين جاءها مخاض الولادة عن غير زواج، على النحو المعروف فى مجتمعها، وهناك ما يمكن أن نعتبره صياما غير دينى، فى سائر المجتمعات يوجد أفراد، قرروا مقاطعة تناول اللحوم نهائيا؛ هؤلاء هم النباتيون وكان المرحوم أنيس منصور واحدًا منهم وحدثنا عن حكاياته مع الأكل والطعام كثيرًا، وهناك الصيام بأمر الطبيب، حين تفرض الحالة الصحية على البعض الامتناع نهائيا عن مأكولات بعينها، خاصة مرضى القلب والسكر والكبد.

وهناك من يلزمون أنفسهم بأشكال أخرى من الصيام اتباعا لقواعد «الريجيم»، ولكل طبيب تغذية قواعده فى ذلك، البعض يمتنع عن تناول أى شىء من طعام أو شراب من الثامنة مساء حتى التاسعة صباحا تجنبا للسمنة.

وهناك من يمتنع عن تناول الحلويات أو اللحوم الحمراء أو الفول وغير ذلك، باختصار إذا كان الصيام الدينى لأيام معدودات، تبلغ شهرا بالنسبة للمسلمين و55 يوما بالنسبة للمسيحيين، فإن الصيام الدنيوى أو الطبى قد يستمر طوال العمر، بقواعد الأطباء ومعايير النحافة والسمنة.

وليس الهدف من صيام رمضان كما يتصور البعض هو أن نجوع ونعطش، الله رحمن رحيم، وهو رؤوف بنا جميعا. وليس صحيحا ما يقرره البعض من أن الهدف هو أن يحس الغنى بآلام الفقير، ولو صح ذلك لما طلب الله من الفقراء أن يصوموا، وذهب التكليف بالصيام إلى الأغنياء والموسرين فقط.

ويجب الإقرار بأن الصيام تكليف مرهق، ولذا فإن الله منح العديد من الرخص للمرضى ومن هم على سفر ومن لا يطيقونه ومن اضطر للإفطار على أن يقضى ذلك فيما بعد أو يطعم جائعًا.. وهو ليس كذلك فى الإسلام فقط، ولكن فى المسيحية أيضا، يمكن أن تسمع صائما مسلما يقول إن صيام المسيحيين هين، فيكفى أنهم يشربون الماء، وتسمع صائما مسيحيا يردد أن صيام المسلمين بسيط عدة ساعات فقط ويعودون للطعام والشراب، ومدته شهر وليس 55 يوما؛ وبغض النظر عن هذه الطرائف ولا أقول المفاضلات فإن الصيام فى النهاية «أمر إلهى» وتكليف واجب على كل «عاقل راشد»؛ وقبل ذلك وبعده: مؤمن.

طبقا للآية 183 من سورة البقرة، فإن الهدف من الصيام هو الوصول إلى مرحلة التقوى «لعلكم تتقون».

والتقوى حالة من الإيمان تتجاوز التعامل مع الله بمنطق الخوف والحذر من العقاب أو الطمع والرجاء فى نيل الثواب والأجر العظيم، وإن كان الخوف هنا لا يعاب والطمع والرجاء لا يؤاخذ عليه صاحبه، التقوى درجة من السمو الروحى والتسامى النفسى تتجاوز الخوف أو الطمع.

وفى كل الأحوال إذا فهم بعضنا الصيام على أنه مجرد جوع وعطش، فهذا مكسب للإنسان، إنه درس فى مواجهة الرغبات الملحة والغرائز والاحتياجات الدائمة، فإذا أمكن للإنسان أن يواجه ويتجاوز تلك الرغبات الأساسية من طعام وشراب وغيرهما، فما بالنا بما هو دون ذلك؟ وهذا يعنى أن يتحرر الإنسان ويكون قادرا فى لحظة على الاستغناء عن أهم الأشياء، وكما قال محيى الدين بن عربى «إذا استغنيت اغتنيت» فلا يذله احتياج ولا يهان بضعف أمام رغبة أو حتى غريزة، الصيام حالة تحرر، من عاداتنا الصارمة وطقوسنا اليومية وأيضا من احتياجاتنا وغرائزنا.

أحيانا يتحول الإنسان مع عاداته ونظامه فى الحياة إلى نوع من الروتين الشديد، وربما عبودية أو وقوع فى أسر تلك العادات، والخروج من هذا الأسر مهم وضرورى، وقد حاول بعض المسلمين الأوائل المزايدة وطرحوا على النبى فكرة أن يصوموا طوال العام، بلا توقف، ورفض طلبهم تماما؛ وكان الرد أنهم لو فعلوا ذلك «لا صاموا ولا أفطروا»؛ أى انتفت فكرة ومعنى الصيام ذاتها.

وإذا فهمنا الصيام على أنه طريق إلى التقوى، وليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، فهو درس فى السمو الروحى، والوصول إلى حالة من الصدق والحب مع الله سبحانه وتعالى ومن ثم مع الكون كله ومع الإنسان عموما، وهنا تتحقق إنسانية الإنسان، بغض النظر عن أى شىء آخر، تأمل حال التسامح التى يتطلبها الصيام، فى حديث نبوى أن الصائم يجب أن يتحلى بخلق وسلوك خاص «فإن امرؤ قاتله أو شاتمه قال: اللهم إنى صائم»، أى أن يتجنب الصائم مقاتلة من يريد أن يدفعه إلى تلك الحالة وألا ينجر إلى مجال الشتائم، والتدنى فى استعمال الألفاظ والتسفل فى الخلق. على الصائم أن يتجنب ذلك تماما، ومن ثم يتجنبه طوال أيام السنة.

باختصار يصبح التسامح والتغاضى عن إساءات الآخرين سلوكا فى حياتنا اليومية، هذا التسامح يحتاج نفس قوية؛ النفس المهتزة والمرتبكة أو الضعيفة لا تقدر على التسامح والسلام مع الآخرين.

والحق أن المصريين أكثر من فهموا الصيام ويمارسونه بمعناه الحق، فقد تحول إلى جو احتفالى يؤكد ويعيد الترابط الأسرى والتكافل الاجتماعى، فضلا عن حالة التسامح التى تعم الجميع.

لم يعد الصيام أياما للجوع وللعطش، بل أيامًا للتقارب وللتآخى وإزاحة كل ما فى النفوس من كدر أو غضب.
نقلا عن المصرى اليوم