عاطف بشاي
كنا نتصور أنه حينما جاء طوفان ثورة (30) يونيو.. أن تعود مصر للمصريين بعد أن سرقها قراصنة التكفير.. وحان الوقت لتعلن أشجار الياسمين عودتها للحياة.. فلا تختنق الشمس على مشانق الإرهاب.. ولا تموت الحدائق والفصول والقصائد والفنون.. وتفك «مصر» ضفائرها الحريرية.. وتعود سافرة حره حية وهاجة تستحم بالضوء.. وتتعمد فى مياه الحب والحرية ووهج الحضارة.

كنا نتصور أنه لن يتنازع الوطن فاشية الدجل والدمامة وفرض الوصاية.. ودعاة الظلام المتحصنين بكتب التحريم والتجريم والإقصاء والمصادرة الصفراء.. وثقافة الحلال والحرام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. والتمكين.. فتتوارى الخفافيش فى أوكارها.. ويتحقق حلم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.. لنصنع مدينتنا الفاضلة وأحلامنا الكبيرة..

لكننا نكتشف الآن – وفى غفلة من الليبراليين والنخبة الحنجوريين – أنهم لم يهبطوا علينا من كوكب آخر.. ولم يتسللوا فى جنح الليل كالهكسوس ليسرقوا ثورة يناير ويحتلوا البلاد.. ويستعبدوا العباد.. نكتشف أنهم مازالوا موجودين بيننا.. ويعيشون وسطنا.. ويؤثرون فينا.. ويجتاحون الشارع المصرى منذ سنوات طويلة.. ويصبغونه بطابعهم وثقافتهم ومزاجهم العام.. وأفكارهم المتخلفة وطقوسهم الشكلية التى تسود بين العامة.. تحتقر العلم والمرأة.. وتستكين إلى غياب العقل ورطانة الدعاة الذين يتمتمون بتعاويذهم.. وفتاواهم المسمومة.. فإذا ما اختفوا من كادر السلطة فإن ذلك لا يعنى اختفاء أفكارهم التى صدرها دعاتهم واستقرت وعششت فى عقول الناس وشكلت ردة حضارية واضحة.. والسلفيون جاهزون لحمل الشعلة.. ومواصلة الجهاد.

أتذكر أن المعلمة المنتقبة التى انقضت على شعر طفلتين فى الفصل الدراسى وقصت شعرهما عقابًا على عدم ارتداء الحجاب فى ظل حكم الإخوان.. استلفتنى وقتها صيحات الدهشة والاستنكار وعدم الفهم والالتباس التى سيطرت على المعلمة حينما تم التحقيق معها تمهيدًا لمعاقبتها على تلك الجريمة المشينة.. كان لسان حالها يقول: ما هذه الزوبعة التى تثيرونها؟!.. وأى تناقض ذلك الذى يتسم به سلوككم.. ألسنا نعيش فى كنف حكم يبشر بدولة دينية سعيًا وراء الخلافة وتطبيق الشريعة.. واستنكار وجود تلك الدولة المدنية التى يؤمن بها الكفار؟!.. فأى جرم ارتكبت.. وبأى منطق تحاكموننى؟!.. لقد كانت تتوقع شهادة تقدير أو ترقية وليس عقاباً.

ثم يدور الزمن دورته وتقوم ثورة تطيح بالإخوان.. لكن الحادثة تنتقل من المدرسة إلى «المترو» فى تصاعد عدوانى.. وتعتدى منتقبة على امرأة سافرة.. مستخدمة «كاتر» تجتز به خصلات شعرها وتضربها فى مشهد داعشى وحشى.. وتسرع بالهرب وسط ذهول وجزع الركاب.

إن هذه الواقعة وغيرها من وقائع استخدام العنف.. وارتكاب الجرائم باسم الدين استنادًا إلى فتاوى التكفيريين وتقمص أدمغتهم التى ترفع عصا حماية الفضيلة والأخلاق الحميدة من انتهاك أرباب الرذيلة والفحش بها حتى لو كانت فتيات صغيرات فى سن الطفولة.. فهى فى النهاية مشروع امرأة.. والنساء أصل كل الشرور ومنبع كل رذيلة.. وكلهن عورة.. وهن شياطين خلقن لنا.. ينبغى تأديبهن وقهرهن.

هذه الوقائع تؤكد أن غسيل الأدمغة يتواصل ويمتد ولا ينحسر.. وأتفق مع الكاتب الكبير «وحيد حامد» فى أن المجتمع المصرى لديه استعداد فطرى لتفشى تلك الاتجاهات الظلامية أو حسب تعبيره: لدينا دواعش جاهزون.. لا ينقصهم سوى الإعلان عن أنفسهم.. وإذا كانت الطامة الكبرى والكارثة الحقيقية والمفارقة المذهلة أن يكون التحرش الدينى ليس من قبل الرجال فقط.. فقد امتدت كراهية المرأة واحتقارها واعتبارها مخلوقًا غرائزيًا مشتعلًا بالرغبة الجنسية العمياء الجامحة امتدت إلى المرأة نفسها التى تشارك هؤلاء الشيوخ المتطرفين نظرتهم الدونية إلى المرأة ومفهومهم المتخلف للعذرية وتصورهم المريض أن مقياس الشرف الوحيد هو النصف الأسفل من جسد المرأة.. وأن ختان الإناث عفة وسلوك إيمانى.. فإنه بالعودة بطريقة الفلاش باك السينمائية إلى سنة حكم الإخوان، حيث نجد أن هوانم الإخوان المسلمين باعتبارهن الممثل الشرعى والرسمى لمجتمع الإخوان.. ابتداء من مستشارة الرئيس لشؤون المرأة التى تجمل قبح المجزرة الإنسانية.. «الختان» وتسميها عملية تجميلية.. وتتحرك فى دائرة ثقافة التحريم والتجريم فتعلل البشاعة والبربرية التى تتمثل بتر البظر.. وتستكمل تجميل قبح الفعل الإجرامى بوصفه أنه عادة متأصلة ولا يعيب تنفيذه إلا أنه يتم عادة قبل سن البلوغ.. وأنها سوف تنصح الرئيس أن يصدر قرارًا بتأجيل «الذبح» إلى ما بعد البلوغ.. المهم أنه فى النهاية وقاية لشرف المؤمنة وحفظًا لعرضها وعفافها.. وليس عدوانًا على الجسم البشرى وتحرشًا ضد المرأة باسم الدين.. وجورًا على حقها فى المتعة الجنسية المشروعة.. المهم أن يستمتع الرجل.. ولا شأن للمرأة بذلك على الإطلاق فهى ليست سوى آلة للإنجاب.

فإذا عدنا إلى الحاضر فإن المفارقة تزداد حدة وتصاعدًا فتطبيق «الذبح» يتم على يد «طبيبة» بمستشفى السويس العام.. تسببت فى وفاة فتاه وتم تحويلها إلى التحقيق بتهمة تشويه الأعضاء التناسلية.. وأسفر التحقيق عن معاقبة الطبيبة «عقابًا رادعاً» وقاسيًا هو الغرامة المالية هى وطبيب التخدير وممرضة المستشفى!!!!

نحن نحتاج إلى ثورة ثقافية حقيقية فى ظل تراجع قيم ومفاهيم الحضارة الحديثة فى مواجهة عدونا المحموم والمخيف للوراء لحساب أصولية ذميمة.
نقلا عن المصرى اليوم