لم يكن مشهد القمص الذي صعد منبر الأزهر وخطب منه في الحاضرين في أحد أفلام الثلاثية لحسن الإمام من وحي خيال المخرج أو مؤلف الفيلم أو صاحب الثلاثية الروائي نجيب محفوظ، إنما هو شخصية حقيقية وهو القمص سرجيوس.

 
ولد في جرجا بسوهاج في ١٨٨٢ وهو قس وخطيب وثائر وطنى يُعد نموذجاً حياً لمعنى الوحدة الوطنية، ولم يعبأ بمنصب ولم يخش سلطانا، وقد رُسِّمَ قساًعلى بلده ملوي باسم القس ملطى سرجيوس ثم عُيِّن وكيلاً لمطرانية أسيوط في أكتوبر ١٩٠٧.
 
أصدر سرجيوس مجلة المنارة المرقسية في سبتمبر ١٩١٢في الخرطوم عندما كان وكيلاً لمطرانيتها كمنبر لدعوة الأقباط والمسلمين إلى التلاحم الوطنى غضب عليه الإنجليز وأمروا بعودته إلى مصر في 24 ساعة.
 
وفي ثورة ١٩١٩، برز القمص سرجيوس وسط الثائرين، فكان أشبه بعبدالله النديم، إذ وهبه الله لساناً فصيحاً جعله خطيبا رفيعا مفوها إلى حد جعل سعد زغلول يطلق عليه لقب خطيب مصر أو خطيب الثورة الأول خطب سرجيوس في الأزهرلأكثرمن مرة معلناً أنه مصرى أولاً ومصرى ثانياً ومصرى ثالثاً، وأن الوطن لا يعرف مسلماً ولا قبطياً، بل مجاهدون فقط دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء.
 
وهو نفسه الشخصية التي ظهرت في أحد أفلام حسن الإمام «ثلاثية نجيب محفوظ» معتلياً المنبر يخطب في المسلمين مؤكداً الوحدة الوطنية أثناء ثورة ١٩١٩ ذُكِر عنه أنه ذات مرة وقف في ميدان الأوبرا يخطب في الجماهير المتزاحمة، وفي أثناء خطبته تقدم نحوه جندى إنجليزي شاهرا مسدسه في وجهه، فهتف الجميع: «حاسب يا أبونا، حايموتك»، وفي هدوء أجاب أبونا: «ومتى كنا نحن المصريين نخاف الموت! دعوه يُريق دمائي لتروى أرض وطني التي ارتوت بدماء آلاف الشهداء. دعوه يقتُلنى ليشهد العالم كيف يعتدى الإنجليز على رجال الدين».
 
وأمام ثباته واستمراره في خطابه تراجع الجندي عن قتله، مرة أخرى وقف هو والشيخ القاياتي يتناوبان الخطابة من فوق منبر جامع ابن طولون، فلما ضاق بهما الإنجليز ذرعاً أمروا بنفيهما معاً إلى رفح في سيناء وهناك لم يتوقف عن كتابة الخطابات إلى المندوب السامي البريطاني يندد فيها بسياسة الإنجليز.
 
وقضى سرجيوس والشيخ القاياتى 80 يوماً في هذا المنفي، وفضلا عن مجلة «المنارة المرقسية» أصدر عدداً كبيراً من الكتب كذلك كتب الكثير من المقالات في مجلات غير مجلته، كان يوقع عليها باسم «يونس المهموز»، إلى أن وافته المنية «زي النهارده» ٥ سبتمبر ١٩٦٤، وأطلق اسمه على أحد شوارع مصر الجديدة بالقاهرة.