نص الورقة البحثية التى القاها الاب اثناسيوس فى موتمر البارتريستيكس باكسفورد يوم الجمعة 23 اغسطس 2019 وعنوانها (القديس انطونيوس شاهد على أصالة الشخصية والهوية المصرية)

البروتوبرسفيتيروس اثناسيوس حنين

السادة الاساتذة والزملاء الباحثون

لم أتى لأعلمكم جديدا وأنتم الفهماء بل أروم أن تكون كلمتى هذه صوت صارخ فى صحراء البحث وبرارى التنقيب ’ صوت صارخ من برية هذا البلد العظيم’ مصر "ايجيبتوس" ’ الذى أهدت صحرائه وبراريه وضفاف نيله نساكا أكابر ونماذج مضيئة أضافت أنفاس الهية الى حضارة البحر المتوسط ’ بل وتعدتها الى المسكونة كلها ويذهب العالم بيار جريمال الى أن أثر الحضارة المصرية قد أثر فى العالم القجيم قبل سيطرة الثقافة الرومانية -الهيللينية .صوت شعب عظيم يبحث عن هويته التى أصابها لون من الانفصام التاريخى وفقدان الذاكرة الجمعية وتشتتها بين مصرى وقبطى وعربى ! بينما تأخذ كل هذه الأفرع الصغيرة قوتها ومعناها من أصل الشجرة شجرة الأم مصر’ أى أنه لا يوجد أو يجب أن يوجد علم أخر سوى علم الايجيبتولوجى ! العلم الحاضن لكل من أتى عليه من روافد أو خرج من أحشائه من أجنة . هذا يصب فى مصلحة الجميع فى الداخل وفى الخارج وله اساسات علمية واكاديمية تبرره وتدعمه لأنه فى اتحاج الأفرع فى الشجرة قوة بينما تشتتها يمكن قصها باوسخ مقص تلم !!!. ولأن التاريخ يصنعه البشر فقد وقع اختيارنا على مصرى أصيل ’ ابن القرية المصرية بكل تقاليدها وأصولها . ولسنا وحدنا الذين نبحث فى هذه المضمار ’ فقد سبقنا علماء يبحثون هم أيضا عن الجذور المصرية لتلك الظاهرة الرهبانية الفريدة فى التاريخ التى نِشأت فى صحراء مصر وعلى ضفاف نيله . يقول العالم الباترولوجى بارتيلانك فى بحث له تم نشره فى الطومس "الكسندريات " تكريما لأحد علماء الباترولوجى كلود مونديسور :" ...هدفنا من هذه العجالة أن نظهر أو نعيد أظهار العلاقة بين الرهبنة المسيحية والثقافة المصرية ’ نحن نريد أن نوضح الأمر الواضح ’ والذى تم تجاهله عبر تاريخ مصر الطويل ’ وهو أن الرهبنة فى وادى النيل هى مرأة نرى فيها ومن خلالها الثقافة والعادات والحياة اليومية لهؤلاء المزارعين وملاك الأراضى والفلاحين ’ الذين تركوا كل شئ ’ بحرية مطلقة ’ وسكنوا الصحراء واقاموا أكبر مشروع لتعميرها وأستصلاحها وطرد الارواح الشريرة (حسب عادات المصريين ) منها ’ وتسكين الاروح المنيرة !هؤلاء الرهبان العلمانيين (الرهبنة المصرية ’ فى بداياتها ’ حركة علمانية لا كهنوت يها ) صاروا قوة روحية وثقافية جديدة ليس فى أرض مصر ’ بل فى شتى ربوع الامبراطورية )راجع البيبللوغرافى فى النص الفرنسى . تقدم هذا الموكب أبن مصر البار سليل الأسرة المصرية التقليدية والميسورة الحال ’ اذ قامت الحكومة الرومانية بسن قوانين جديدة للملكية بهدف أدماج المصريين فى النسيج الاجتماعى للبلاد وأصبح المصرى يمكنه امتلاك الأرض وبينما كان متوسط الملكية بضعة عشرات الأفدنة ’ كانت أسرة أنطونيوس تمتلك ثلاثمائة فدان .لم يكن الهدف من ذكر ثراء عائلة الفقير الى الله والجائع الى القداسة أنطونيوس الافتخار الغنى أو التشدق بالفقر ’ بل أظهار الحرية التى عاشها هو ورفاقه فى اعتناق الحياة النسكية فى صحراء جردأء قلما قبلت أن تتصالح مع الانسان( من المعروف أن اكثر من 90 فى المائة من أرض مصر صحراء )و وصل العالم هيوس الى أن يرى فى عائلة أنطونيوس (عائلة مصرية معاصرة ’ سعيدة ’ ومتحررة ).

-المدرسة المصرية والتعليم :
نحن نستبعد أن يكون الشاب انطونيوس ابن الحسب والنسب جاهلا أو أميا بالمعنى الحرفى للكلمة ’ ما ذكره كاتب سيرة انطونيوس يعود الى رغبة الكاتب أن يمجد عطايا السماء أكثر فى مواجهة تيارات العلم الفاسد فى أرجاء الامبراطورية ’ وهذا تقليد أدبى سائد فى الكتابات البيوجرافيا .كان انطونيوس يعرف اللغة المصرية القديمة (ما اصطلح على تسميتها بعد القرن السابع الميلادى بالقبطية ’ ونحن نفضل استعمال المصرية القديمة )’ تلك اللغة التى تم تلقيحها بكلمات يونانية وصار من يعرفها يمكنه فهم اليونانية .كان التعليم فى المدرسة المصرية يهدف الى تكوين الانسان (الذى يجيد الأصغاء والانصات ’ هومو أدويتور )والانسان المطيع والذى ينحنى أمام من يكلمه ’ ولقد تقدس هذه السلوك وتعمدت هذه الثقافة فى دموع أباء البرية ويزهر فى علاقة انكونيوس بالكلمة الالهية والذى صار تقليدا مسيحيا مصريا ونقصد حفظ الانجيل عن ظهر قلب والكاعة المطلقة لانفاسه التى هى أنفاس اللاهوت . بينما الثقافة اليونانية قائمة على الكلام (فى البدء كان الكلمة ) ’كلام الاكاديمية والمسرح والفلسفة ’ كانت الثقافة المصرية تقوم على (فى البدء كان الصمت ) صمت المعابد وسكون القبور وانسكاب القلوب ’ لهذا شكل التراثان جناحى الثقافة الكونية ’ وحينما التقيا أبدعوا ’ وحينما اختلفوا أخفقت الثقافة الكونية وأختنقت فى بعدها الدينى واللاهوتى . انطونيوس ورفاقه كانوا على دراية بما يجرى على الساحة اللاهوتية (كان الرهبان ينتاقشون فى كتابات اوريجينوس ) ’ وعلى الساحة السياسية ويدافعون عن المظلومين حتى اضطرت الحكومة الرومانية لاصدار قرار بمنع الرهبان من النزل الى الاسكندرية .سألنى رئيس الجلسة سؤال يحمل مفهوم الغرب عن أمية أنطونيوس : هل ترى أن انطونيوس هو كاتب الرسال المنسوبة له ؟)

رؤية الموت فى الثقافة المصرية :
القبر هو قبلة المصريين ’ نحن لا نعرف (مكاتب الدفن ) ’ قلت ’ نحن نسكن مع موتانا(فى الاديرة الطافوس ) ونكرمهم ونغسلهم بادينا وندفنهم قرب بيوتنا . نحن فى صلح مع الموت لأنه ثقافتنا اليومية ’ من هنا نفهم كيف سكن انطونيوس القبور بفرح وسلام ’ هناك فارق ذو مغزى بين سيرة انطونيوس للقديس اثناسيوس وبين السيرة العربية المترجمة من المصرية القديمة ’ فى سيرة اثناسيوس قرر انطونيوس الخروج الى البرية بعد ستة أشهر من موت والده . بينما النسخة العربية(للابوفثيجماتا -أقوال الشيوخ ) تقول بأن بمجرد موت ابيه دخل انطونيوس الغرفة المسجى فيها جسد أبيه وبعد تفكير طويل شكر الرب وطرح السؤال الأتى : ما ذا ينقص هذا الجسد سوى نسمة الحياة ’ أين القوة والسلطان الجاه والغنى والمال ؟أرى أن الكل باطل وأنك قد تركت كل شئ ورائك !وحينما ذهب لالقاء نظرة أخيرة على جسد ابيه ’ قال لأبيه : اذا كنت أنت قد خرجت من العالم بدون ارادتك ’ وهذا لا يدهشنى ولا يصدمنى ولكنى سأصاب بصدمة اكبر اذا فعلت مثلك و وترك جسد ابيه بلا مشاركة فى الدفن وخرح الى البرية قائلا (ها انا اخرج من العالم بارادتى ’ حتى لا يخرجوننى كأبى رغم أنفى وارادتى ). هنا يكمن معنى العلاقة الحميمية بين الرهبنة والثقافة المصرية وهوية وشخصية مصر وعاداتها وتقاليدها الغنية فى المعانى الانسانية .يشكل مفهوم الموت فى الثقافة المصرية مفتاح فهم شخصية الراهب المصرى ’ لأن فهم الموت ومكانته فى الحياة المصرية شكل أساس فهم شخصية مصر المتجسدة فى حياة رهبانها ومسيحييها ومن سكنها لاحقا .عثر علماء المصريات . سألوا يوما شيخا مصريا فى البرية " لماذا لا نراك أبدا كثيبا أو متشائما أو خاملا ؟ " فأجاب " لأانى أنتظر الموت فى كل يوم "ولكن الفرادة المصرية التى جسدها هؤلاء النساك الشباب فى روحانية مصرية خالصة تذهب الى أبعد من ذلك .عثر علماء المصرييات على نص قديم يسمى ( أنشودة اليأس ) هذا نصها :

أرى الموت دوما أمامى
كمثل الشفاء بعد العلة
مثل الضمادة بعد الجرح
الموت أمامى مثل طريق مطروق .

الجديد أن الرهبان المصريين وخلفهم شعب مصر قد أصطلحوا مع ثقافة الموت ’ وحولوها بالنسك والكلمة والسهر والتجرد والدرس الدؤؤب والعمل والابداع ’ أى أنشودة اليأس المصرية القديمة ’ الى ترنيمة حب ’ فعاشوا حياة ملئها الحياة فى نصرة وحرية وابداع فى ثقافة مصرية لا غش فيها .