كتاب يصنع حراكاً
:::::::::::::::::::::::::::::::
فصل من كتاب: الكنيسة صراع أم مخاض ميلاد

كمال زاخر
الناشر : مؤسسة بتانة ـ القاهرة
:::::::::::::::::::::::::::::::
لا يمكن ان يستقيم البحث وراء فهم موضوعى لما يجرى بيننا اليوم، من مواجهات بين فرقاء، ونحن نقترب من نهاية العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين، بغير أن نقرأ ملابسات البدايات التى شهدتها سنوات 1948 ـ 1954، ما بين رهبنة د. يوسف اسكندر "الأب متى المسكين" ورهبنة أ. نظير جيد "الأنبا شنودة الثالث"، ويمكن أن نجد عنها الكثير، سواء من شهادتهما عنها، أو من شهادات معاصريهم برؤى مختلفة.

غير أننى أرى فى كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية" ـ باكورة كتب الأب متى المسكين، خاصة طبعته الأولى 1952، والذى قدم له الأستاذ نظير جيد ـ ما يمكن اعتباره مفتاحاً لتفكيك تناقضات وتقلبات العلاقة بينهما، فنحن أمام "مُعلم" و "مُريد"، يرى الأول فى الثانى تلميذاً نابهاً، حتى أنه يطلعه على مخطوطة كتابه فى مراحله المتتابعة منذ كان فكرة حتى يكتمل بامتداد ثلاث سنوات، ويطلب إليه وهو الشاب العلمانى أن يكتب مقدمته، والثانى يرى فى الأول نموذجاً جدير بالإقتداء، ويطلق التلميذ سطوره فى كتابه الأول "إنطلاق الروح" لتصف "أبيه الروحى" وجلساتهما الممتدة معاً، وسياحتهما فى دروب الصحراء، يتكلم المعلم وينصت التلميذ، ويحول ما يسمعه الى سطور تحملها مقالاته بمجلة مدارس الأحد، ثم تجمعها دفتا كتاب، ولا تنتهى سطوره إلا وهو يطرق أبواب الدير طالباً للرهبنة.

تنساب حروف التلميذ وتنطلق فى مقدمة كتاب "انطلاق الروح" :
"... كانت الساعة السابعة مساء، والسكون يخيم على أرجاء المكان، حين بدأت وأبى الراهب نضرب بأقدامنا فى رمل الصحراء، نتمشى حيناً ونقف حيناً آخر، متأملين فى موضوعات أسمى من أن يكتبها قلم بشرى ... وقد طال بنا التجوال ونحن لا ندرى، أو نحن لا نود أن ندرى، حتى استقر بنا المطاف أخيراً على عتبة الدير، فجلسنا نناقش موضوع :إنطلاق الروح ..."

وفى تقديمه للطبعة الأولى لكتاب حياة الصلاة يأخذنا إلى أجواء تَشَكُل الكتاب حتى إكتماله
• عندما رأينا هذا الكتاب لأول مرة، كان صغيراً فى حجمه، مكتوباً باللغة الإنجليزية على الآلة الكاتبة فى حوالى 120 صفحة تقريباً. وجده أحد اخوتنا الأعزاء مع راهب ارثوذكسى ينتمى إلى الكنيسة اليونانية فأخذه منه، وقدمه لأحد آبائنا الرهبان لترجمته.

• ولكن أبانا هذا كان يؤمن إيماناً أكيداً أنه قد ترهب للعبادة والتأمل فقط، وإن أتيح له أن يترجم أو ينشر كتباً فليكن ذلك عملاً ثانوياً إلى جوار عمله الأصلى، كان فى الإمكان أن يُترجم هذا الكتاب ويقدم لك من سنة 1949، ولكن الأب الراهب قرأ تلك النسخة الإنجليزية ليتأمل ويستفيد، وليختبر قدر إمكانه تلك المبادئ الحلوة التى سجلها الآباء فى حياة الصلاة ... واستغرق ذلك منه وقتاً.

• وهنا تدرج المشروع فخطا خطوة أوسع. إن المنظم الأول لهذه الأقوال قد سجل مبادئ روحية منسوبة إلى الآباء الذين أعلنوها، فما المانع فى الرجوع إلى كتب هؤلاء، ومعرفة كل ما قالوه أو كتبوه عن ذلك ... وهكذا رجع أبونا الراهب إلى المخطوطات وما طبع منها ، وأضاف إلى النسخة الأصلية كل ما رأى فيه فائدة ومنفعة فى موضوع الصلاة.

• ولم يقف الكتاب عند هذا الحد، بل تدرج خطوة أخرى. ذلك أن النسخة الإنجليزية لم تكن مشتملة على أقوال كل الآباء، بل أن آباء روحيين مشهورين جداً كالقديس أوغسطينوس مثلاً لم تذكر من أقوالهم شيئاً، وهكذا رجع أبونا الراهب إلى أقوال هؤلاء القديسين فى حياة الصلاة وترجمها إلىى العربية وضمها إلى الأبواب التى تصلح لها. واستغرق هذا أيضاً وقتاً.

• ولكن مشروع الكتاب لم يقف عند هذا الحد، وإنما وُجد من الصالح جداً أن يوضع لكل باب من أبواب الكتاب مقدمة مناسبة تشرح أهم المبادئ التى يشملها، وتسهل على القارئ تفهم تلك الروحيات العميقة... فوضعت المقدمات التى تصلح فى حد ذاتها أن تكون كتاباً مستقلاً.

• ونما كتاب "حياة الصلاة" نمواً آخر يستلزم اضافة أبواب جديدة إليه ، وتضمينها أقوال الآباء فيها. (يشير صاحب المقدمة فى شرح مطول إلى ما تم إضافته متعلقاً بنواحى النشاط الخارجى التى تؤثر فى الصلاة وتتأثر بها).

• ويواصل "لعلك عرفت كيف تدرج هذا الكتاب، وكيف اتسع وكيف نما، حتى وصل إلى يديك بهذه الصورة، وحتى كان لازماً جداً أن يستغرق هذا الوقت كله، من أجل أن يخرج فى أكمل وضع ممكن يصلح لمعاونتنا جميعاً على خلاص أنفسنا.".

ويختتم الأستاذ نظير جيد مقدمته بكلمات نتوقف أمامها ملياً :
بقى أن نقول لك، أنه كأى عمل من أعمال الله، كان لابد أن يحاربه الشيطان ، وكأى عمل من أعمال الله كان لابد أن ينتصر فى تلك المحاربات ..

إن الشيطان مستعد يا أخانا الحبيب أن يهبك العالم كله لكى يمنعك عن الصلاة، لأنها أقوى سلاح ضده، أو لأنها السلاح الوحيد الذى به ينهزم.
فتمسك بالصلاة وستصل إلى نهاية الطريق حيث الله فى انتظارك.

حاول أن تقرأ هذا الكتاب لتحوله إلى جزء من حياتك، لا لكى تدرسه أو تزيد به معلوماتك.

وعندما يصدر الكتاب يشعل قلب طيف واسع من الشباب وتتخاطفه الأيدى حتى أن طبعته الأولى تنفذ خلال فترة وجيزة، وكأنه حجر ألقى فى بحيرة ساكنة، وتنتبه كنيسة الروم الأرثوذكس باليونان ولبنان إلى الكتاب والكاتب، فهم أمام كتاب يخترق الحواجز والمتاريس الصلدة التى تحول بين التقاء العائلتين الأرثوذكسيتين، فلأول مرة تضم صفحات قبطية أقوال وتعاليم لعلماء وقديسين من خارجها، "مثـل: القديس غريغوريوس الكبير، والقديس يوحنا الدمشقي، والقديس ساروفيم ساروفسكي؛ مما فتح للأقباط نافذة جديدة على الكنائس الشقيقة الأخرى، التي كُنَّا ننظر إليها، ولسنواتٍ طويلة، على أنها كنائس مُعادية لنا، فإذا بنا نقرأ سِيَر قدِّيسيها وأقوالهم، ونتمثَّل بحياتهم. وكان هذا إيذاناً بقبولنا الآخر الذي لم تستطع الحوارات المسكونية حتى الآن أن تُحقِّقه" .

وقبل أن نسترسل فى رصد فعل هذا الكتاب فى المشهد القبطى الأرثوذكسى، يقفز أمامنا استفهام كبير، حول الإنقلاب الحاد الذى اعترى العلاقة بين التلميذ واستاذه، والذى تُرجم بامتداد العقود التالية إلى ملاحقة "ابونا الراهب" أينما لاحت بادرة لإشراكه فى تدبير المؤسسة؟!.

ـ هل كان الإستقبال المدوى لكتاب حياة الصلاة دور فى هذا؟!.

ـ أم كان السبب هو تحول الأب متى إلى أيقونة عند الشباب حتى صار "أباً لكثيرين" ويقفز إسمه الى مقدمة المرشحين للجلوس على الكرسى المرقسى مرتين، بعد نياحة البابا يوساب الثانى (1956)، ونياحة البابا كيرلس السادس (1971)؟!.

ـ هل كان التحول شخصياً أم جاء معبراً عن تحالفات تجمع بعض من كوادر جماعة مدارس الأحد، التى لم يسترح "أبونا الراهب"، لمنهجهم وفكرهم كما قال فى أوراقه التى كشفها كتاب "السيرة التفصيلية" الذى اصدره دير الأنبا مقار عنه عقب رحيله.

ـ هل كان استشعاراً مبكراً بأن "أبانا الراهب" يمثل حجر عثرة، لا يمكن تجاوزه، أمام مشروع هذه الجماعة للوصول الى مواقع القيادة وقمة الهرم؟!.

ـ وهل كانت اتهامات "الهرطقة" التى انطلقت مبكراً، ولم تنقطع، قنابل دخان تمهد الطريق لإقصاء الرجل عن مسارات الجماعة نحو ما خططوا له؟!، خاصة وأن كتاب "حياة الصلاة" استحضر أقولاً ورؤى لآباء وعلماء ورموز كبيرة من الكنائس "الخلقيدونية"، ولم ينزعج لها ومنها "التلميذ" حين سطر مقدمته لهذا الكتاب، بل اعتبرها حينها أمراً "حسناً جداً"(!!).

ولا أزعم أننى أملك إجابات شافية لهذه التساؤلات.

يصدر الكتاب ويلتف حوله الشباب الباحث عن مخرج من صراعات الكبار وقتها، ويجدون فيه اضاءات ترد لهم ثقتهم فى كنيستهم، ويخايلهم حلم بعث الكنيسة من جديد، كانوا فى سنواتهم الجامعية الأخيرة، من كليات مختلفة، نصحى عبد الشهيد ـ كلية الطب، كمال حبيب ـ كلية الآداب، يسرى لبيب، كلية التجارة، وغيرهم، يراودهم حلم التكريس لا الرهبنة، فيقررون التواصل مع الأب متى المسكين، يراسلونه ويطرحون عليه توجههم، ويسألونه عن مصادر ما ورد من اقوال وتعاليم الآباء على تنوعهم بكتابه، فيعرفون الطريق الى مجموعة كتب آباء ما قبل نيقية وآباء نيقية وآباء ما بعد نيقية،Nicene and Post-Nicene Fathers & Ante-Nicene Fathers

وتقع مجتمعة بأجزائها الثلاثة فى 38 مجلداً، عكفوا على قراءتها بنهم وعمق، وما أن يأتى عام 1958 حتى يتفقوا مع ابيهم الروحى على تأسيس "بيت التكريس" فى حدائق القبة بالقاهرة، وبعد عام ينتقلون إلى ضاحية حلوان، فى واحدة من البنايات المتسعة، وهى واحدة من قصور الخديوى توفيق وكان مخصصاً للأميرات بناته، لتنطلق رحلة التكريس، وينضم اليهم العديد من الشباب إيذاناً بتدشين مرحلة جديدة فى الخدمة التى تجمع بين الروحانية الأرثوذكسية والمنهج الأكاديمى والتفرغ الكامل، ويقترب عدد من طلبوا الإنضمام إلى مائة شاب، الأمر الذى أزعج جهات عديدة داخل الكنيسة وخارجها، وبحسب وصف الشاب الجسور والمثابر نظير جيد، وهو وصف يستحضره فى كل أزماته، حتى بعد أن صار اسقفاً للتعليم "أنه كأى عمل من أعمال الله، كان لابد أن يحاربه الشيطان، وكأى عمل من أعمال الله كان لابد أن ينتصر فى تلك المحاربات .."، لكنه كان انتصاراً مؤجلاً.

وسنفرد مقالاً خاصا لهذه التجربة الرائدة وتطوراتها، وتعثرها ونجاحاتها، والتى صارت واحدة من أهم المراكز البحثية الآبائية الآن، ودور الدكتور نصحى عبد الشهيد، المعلم الصامت، فيها.

لم تقف الدوائر التى احدثها كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية" على بحيرة مياهنا الكنسية الإقليمية، فقد تجاوزتها الى كنيسة الروم الأرثوذكس. ونتوقف هنا أمام واحدة من التداعيات المهمة فى هذا الإطار، على أن نعود إلى دوائر الإنفتاح المسكونى التى طرقها وأسس لها الأب متى المسكين فى طرح مفصل لاحق.

نقف مع تفاعل المطران جورج خضر ، والذى لم يقتصر على الكلمات التى خطها فى خطابه تعليقاً على كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية" والتى قال فيها "إنَّ هذا أول كتاب في العصر الحديث لكاتب قبطي يتتلمذ عليه الروم". بل معه تشهد الكنيسة الجامعة ارهاصات تواصل تقطع خصاماً وصراعاً كان فى كثيره دامياً وعنيفاً امتد لقرون، وما مواجهات اليوم بين الفرقاء إلا تنويعة على هذه القطيعة.

دعونى انقل لكم ما سجلته سطور كتاب السيرة التفصيلية عن هذا :
• كانت زيارة الأب جورج خضر من لبنان رائد حركة الشبيبة الأرثوذكسية التابعة لكنيسة الروم الأرثوذكس فى سوريا ولبنان، من أهم الزيارات، حيث استقبله الأب متى المسكين وتحدث الأبوان لساعات عدة عن عقيدة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى علم طبيعة المسيح Christology، حيث اقتنع بعدها الأب جورج خضر بأرثوذكسية الكنيسة القبطية، إذ كان الأرثوذكس الشرقيون التابعون لكنيسة القسطنطينية يعتبرون حتى ذلك الوقت عقيدة الكنيسة القبطية "أوطاخية" أى لا تؤمن إلا بوجود الطبيعة اللاهوتية فى المسيح دون الطبيعة الناسوتية، وذلك منذ انشقاق الكنائس الأرثوذكسية فى مجمع خلقيدونية عام451 م وحتى ذلك الوقت.

• ولما عاد الأب جورج خضر إلى لبنان كتب عام 1960 أول مقال عن ارثوذكسية الكنائس اللاخلقيدونية فى مجلة النور (الناطقة باسم حركة الشبيبة الأرثوذكسية التى يرأسها). ومنذ ذلك التاريخ بدأ فى نشر هذا الرأى فى أوساط الكنائس الأرثوذكسية اليونانية والروسية، وقد ساهم بذلك مع آخرين فى التمهيد لأول اجتماع مشاورات لاهوتية بين العلماء اللاهوتيين فى العائلتين الأرثوذكسيتين عام 1964 فى آرهوي Aarhus بالسويد. وتوالت بعد ذلك الاجتماعات والمداولات بين هؤلاء العلماء حيث أقرُّوا بعدم وجود خلافات بين العائلتين الأرثوذكسيتين إلا فى الألفاظ والمصطلحات فقط دون العقيدة التى هى نفس العقيدة لدى العائلتين الأرثوذكسيتين. ثم تم اجتماع رسمى بين رؤساء الكنائس الأرثوذكسية فى العالم بين الفريقين، وأعلنوا ـ بناء على توصياتالعلماء اللاهوتيون ـ عدة قرارات تاريخية تُمهِّد لعودة الوحدة الأرثوذكسية المفقودة بعد 1500 عام من الإنشقاق والمآسى والحروب التى حدثت بين الكنائس الأرثوذكسية بعضها والبعض.

ولم تتوقف الدوائر التى احدثها كتاب "حياة الصلاة" فى مياهنا القبطية والإقليمية بل اجتذبت ومازالت العديد من القامات اللاهوتية والروحية من شتى بقاع العالم، سعياً لوحدة حقيقية على مستوى الروح، ومازالت الأجيال المتتالية تنهل من معين هذا الكتاب فتبنى حياتها على الإيمان المستقيم وتنفتح على الله والإنسان.

إنه كتاب صنع حراكاً لحساب المسيح وجسده الواحد.