تحكمت حركة الاستشراق فى تشكيل نظرة الأوروبيين للشرق عمومًا ومنطقتى غرب آسيا وشمال إفريقيا خصوصًا، ومازلنا نتذكر كيف أن صورة الشرق قد تشكلت فى العقل الأوروبى من خلال ما كتبه أولئك المستشرقون، خصوصًا فى القرون الأربعة الأخيرة، وما أكثر الكتب الباقية التى كتبها أولئك الزوار أو الرحالة أو العلماء الذين جابوا بلاد الشرق ومدنه وكتبوا عنه كتابات ترسبت فى الذاكرة الغربية، ومازلت أتذكر أن أحد الأوروبيين الذين عاشوا فى القاهرة فى القرن الثامن عشر قد أدهشته ظاهرة وجود خراف صغيرة أمام المنازل قبيل عيد الأضحى ولم يكن مدركًا لطبيعة الأضحية فى الإسلام، فكتب يقول إنه يبدو أن المصريين مغرمون بتربية الخراف الصغيرة بدلًا من الكلاب عندنا!

ولذلك فإن النظرة الأوروبية لمصر قد افتقدت فى فترات طويلة المضمون الفكرى والثقافى للشخصية المصرية، وكتب أصحابها كتابات مجردة لا تتفهم الخلفية الحقيقية لما يشهدونه، إذ إن معرفة اللغة بمعناها الحرفى لا تكفى ولكن لابد من دراسة منظومة القيم وفهم طبيعة التقاليد حتى يتمكن الغربى أو الأجنبى عمومًا من فهم ما يراه وتحليل ما يشاهده، وتحضرنى الآن نادرة لا أنساها، فقد كان الرئيس الراحل «السادات» يخطب بعد قيامه بحركة التصحيح بساعات عام 1971 وتطرق إلى وفاة سلفه الرئيس الراحل عبدالناصر وقال نصًا: (إن الروس جاءونا فى العزاء بصينية كبيرة وذلك أمر لا ننساه) ودقت أصابع التكرز وتوالت الفاكسات، ولكن العبارة كانت غامضة على الجميع، بينما يقصد الرئيس السادات ذلك التقليد الريفى المعروف فى مصر حين تقوم كل أسرة فى القرية بمشاركة أسرة من رحل بمائدة عشاء يذهبون بها إلى دار المناسبات الكبيرة مواساة لأسرة المتوفى ومجاملة لهم، وبالتأكيد لم يدرك من استمعوا إلى الترجمة الحرفية حقيقة ما يقصده السادات إلا بعد أن انبرى بعض خبراء علم الاجتماع ليشرحوا لهم المقصود من هذا التقليد المصرى المتوارث، ولذلك فإننى ألفت النظر بشدة إلى أن كثيرًا مما كتبه الغربيون عن مصر جاء أحيانًا جافًا ومجردًا من المعانى الإنسانية والظروف الأخلاقية التى يعتنقها المصريون عبر آلاف السنين، وهل ننسى اللورد «كرومر» ومن بعده «ألدون جورست»،

وقد اعترتهما الدهشة من طبيعة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر، حيث رأيا أن الفوارق معدومة بين المصريين بسبب اختلاف الديانة وأن بعضهم يذهب إلى المسجد يوم الجمعة والبعض الآخر يذهب إلى الكنيسة يوم الأحد ولن يستطيع مستشرق غربى أن يدرك عمق دلالة ذلك إلا إذا علم عن يقين أن المكون المصرى واحد وأن الاختلافات الدينية والأحداث الطائفية لا تعبران عن الشخصية الحقيقية للمصرى، وهى شخصية يسهل اختبارها فى الأزمات، ولعلنا نتذكر هنا أن الثمانية عشر يومًا الأولى من ثورة ميدان التحرير عام 2011 لم تعرف حادثًا طائفيًا واحدًا ولا حتى واقعة تحرش واحدة برغم وجود مئات الألوف من الشباب والفتيات الذين كانوا يرفعون شعارات محددة تدور فى جوهرها حول قضية العدالة الاجتماعية ورفض سياسة التمييز فى الوظائف والصلاحيات مع الدعوة القوية إلى بناء دولة عصرية حديثة تخرج من شرنقة الماضى وترفض سلبياته وتمضى على طريقى التنمية والديمقراطية، ولقد عاصرت تشكيل صورة مصر فى العقل الأوروبى من خلال رؤيتهم لأحداث الربيع العربى وفهمهم المضطرب وتقييمهم الناقص ليومياته، خصوصًا فيما يتصل بالملابسات والتداعيات المرتبطة بمحاولة نشر الفوضى الخلاقة وزرع أسباب العزلة بين أبناء الجيل الواحد وربما المدرسة الواحدة أيضًا، إننى أحذر من تكوين صورة مغلوطة عن مصر والمصريين بشكل تعمدى وتحكمى لا يخلو من سوء نية، خصوصًا أن الشعب المصرى يرفع دائمًا رايات الأخوة والتسامح ويرفض العيش فى كهوف الخوف ويفضل الاندماج القائم على قبول الآخر واحترام خيارات الغير، لأن ذلك هو الطريق الوحيد لتحقيق الغايات الكبيرة مهما كانت التحديات الصعبة.

نقلا عن المصرى اليوم