منذ تجليس الأنبا يؤانس أسقفًا على إيبارشية أسيوط وتوابعها، خلفًا للأنبا ميخائيل شيخ مطارنة مصر، وترؤسه أكبر «زفات» السيدة العذراء، فى ديرها الشهير على جبل درنكة، ويتكرر معه مشهد وقوف حمامة على كتفه لفترة كبيرة أثناء أدائه الصلوات وإلقاء عظته أمام الحضور، الذين يتلقون الأمر بفرحة شديدة، نظرًا لـ«رمزية» ذلك الطائر واعتقاد كثيرين منهم أنه السيدة مريم.

والتقطت صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو عديدة للأنبا يؤانس يظهر فيها وحمامة بيضاء فوق كتفه أو على عمامته السوداء، كان آخرها تلك الملتقطة أثناء ترؤسه «زفة العذراء» وهو بداخل سيارة مفتوحة السقف يلوح من خلالها للحضور.

لكن فى المقابل، ظهرت العديد من الآراء المعارضة لفكرة «ظهور» السيدة العذراء فى صورة حمامة، معتبرين أن الأمر بمثابة «خدعة» أو مجرد «صدفة عابرة»، وهو الرأى الذى أيده مقطع فيديو يظهر فيه أحد «الشمامسة» وهو يضع حمامة بيضاء على كتف الأنبا يؤانس، فى إحدى الصلوات.. فما الحقيقة؟

مصادر كنسية: عادة لـ«التبرك».. وليست ظهورًا أو دليلًا على معجزة
قال مصدر كنسى إن المجمع المقدس برئاسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، لم يناقش فى أى من جلساته الرسمية أو الفرعية ملف «حمام أسيوط»، منذ تولى الأنبا يؤانس كرسى الإيبارشية وحتى الآن، معتبرًا ذلك دليلًا على إدراك القيادات الكنسية أن الأمر بمثابة عادة لـ«التبرك» فقط وليس «ظهورًا».

وأوضح المصدر: «فى حالة وجود احتمالية لظهور السيدة العذراء مريم، تنعقد لجنة مجمعية برئاسة البابا للبت فى الأمر، وهو ما حدث فى الظهورات المعترف بها رسميًا من قبل الكنيسة، وأحدثها ظهور كنيسة السيدة العذراء فى الوراق، ومن قبلها كنيسة القديس مار مرقس الرسول فى أسيوط».

وأكد ما قاله المصدر القمص يوحنا نصيف، كاهن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فى شيكاغو، قائلًا: «الكنيسة ليست لها أى علاقة بموضوع ظهور السيدة العذراء على هيئة حمامة، وليس فى عقيدتها ما يؤكد أو ينفى ذلك»، موضحًا أن «كل ما فى الأمر أن السيدة العذراء تلقب بالحمامة الحسنة لوداعتها وطهارتها وبساطتها».

وأضاف: «فى ظهور السيدة العذراء فى الزيتون عام ١٩٦٨، صاحب الظهور طيران حمام نورانى بحجم كبير، وليس فى حجم الحمام العادى، وكان يظهر ويختفى بعد أن يطير بسرعة كبيرة، كما قال شهود العيان، وهو ما اعتبره كثيرون ظهورًا لأرواح قديسين مصاحبين للسيدة العذراء».

وكشف بولا سامح، خادم فى كنيسة الملاك ميخائيل البحرى بالقاهرة، عن أن وجود الحمام فى «دير درنكة» يعود إلى أيام الأنبا ميخائيل، أسقف أسيوط الراحل، وهى «نذور» يقدمها الأقباط خلال فترة «صوم السيدة العذراء»، لدلالتها على النقاء بدون أى دلالة روحية أو تجسيد لظهور العذراء، موضحًا أن «ظهور الحمام على عمامة الأسقف يدل على الفرح والسلام لا المعجزة».

وعن «ظهورات» السيدة العذراء فى الكنيسة الكاثوليكية وكيفية الاعتراف بها، قال الأنبا هانى باخوم، المتحدث الرسمى باسم الكنيسة الكاثوليكية فى مصر، إن «الاعتراف بظهور السيدة العذراء فى الكنيسة الكاثوليكية ليس سهلًا، ويحتاج إلى وقت طويل للتأكد من حقيقة حدوثه بالفعل، عن طريق أشخاص ثقات»، مشددًا على أن ظهورها يكون من أجل خلاص النفوس لا التعظيم أو التفخيم.

بدوره، أكد الشماس مينا عريان جندى، أحد الخدام المقربين من الأنبا يؤانس، أن ما حدث ليس ظهورًا للسيدة العذراء، وقال عبر «فيسبوك»: «الناس اللى عمالة تتكلم على الأنبا يؤانس ووقوف الحمامة على راسه وتواجدها معاه دايمًا فى دورة العدرا.. الناس اللى عمالة تشكك فى بركة العدرا لديرها.. الناس اللى بتقول إن دا استعراض ومش كل حمامة يبقى ظهور للعدرا.. هو فيه حد قال إن دا كان ظهور للعدرا؟».

وأضاف: «الحمامة رمز من رموز العذراء مريم، الحمامة الحسنة، فممكن نعتبرها أيقونة جميلة للعذراء مريم، كما ظهرت لنا أكثر من مرة على هيئة حمامة أو سرب حمام زى ظهورات الزيتون»، مشيرًا إلى أن «ظاهرة الحمام دى قديمة من أيام الأنبا ميخائيل.. الناس وهى رايحة الدير بتقدم نذور وتبرعات وذبائح من ضمنها الحمام، كما ذكر فى (إنجيل لوقا ٢: ٢٤) وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِى نَامُوسِ الرَّبِّ: زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَى حَمَامٍ».

وتابع: «المكان هناك يا سادة مش محتاج دعاية واستعراض وهبد على الفيسبوك عشان الناس تزور الدير.. الناس من كل أنحاء الجمهورية بتروح كل سنة الدير.. والمكان مش محتاج فلوس، المكان غنى جدًا ببركة العدرا.. العدرا ظهرت أو مظهرتش الناس بتزور، والأنبا يؤانس بركة وقيمة وقامة وربنا بعته فى المكان الصح ومش محتاج حد يمدح فيه أو يقول إنه بركة.. العدرا فعلًا أكيد بتحبه لأنه بيخدمها وكبر ديرها بعد المتنيح الأنبا ميخائيل». واختتم: «أرجوكم سيبوا الناس تفرح وتتعزى، دى أيام معدودة فى السنة الناس بتستناها عشان تصلى وتزور وتفرح».

مفكرون: وجود الطائر طبيعى لأنه من «النذور».. ونرفض اللعب بالبسطاء
أكد المفكر القبطى كمال زاخر أن وجود الحمام فى «دير درنكة» وغيره من الأديرة والكنائس التى تحتفل بـ«صوم السيدة العذراء» أمر طبيعى، لأنه ضمن «النذور» التى يقدمها الزائرون، مشددًا على أن الحمام لم يمثل أى «مدلول روحى» فى عهد الأساقفة السابقين، وعلى رأسهم الأنبا ميخائيل، مطران أسيوط الراحل، الذى كان مدققًا وحازمًا وصارمًا فى مثل تلك الأمور.

واعتبر «زاخر» تداول مثل هذه الصور ينال من هيبة ووقار رجال الإكليروس من الأساقفة والكهنة، ويضعهم فى مرمى السهام المخالفة، ويعد مخالفًا لما قاله الرسول بولس بشأن ضرورة تحلى الأساقفة بالوقار والهيبة وأن يكونوا قدوة للمؤمنين.

ورأى أن هذه الظواهر ترتبط بما سماه «التراجع المعرفى وغياب شخص السيد المسيح عن مركز التعليم الآبائى»، وتؤكد تبنى البعض لنشر رؤيتهم الشخصية على حساب رؤية الآباء، بل ومقاومتهم لمن يحاول بعث «لاهوت الآباء» من مصادره اليونانية، وهو ما شاهده الجميع فى حملات الهجوم على كتب الأب متى المسكين والدكتور جورج بباوى، وفق قوله.

ورفض الربط بين الحمام وظهورات السيدة العذراء، قائلًا: «عندما يتردد حديث عن ظهور السيدة العذراء، تشكل الكنيسة ممثلة فى البابا لجنة رسمية من الآباء الأساقفة والإكليروس وبعض المدنيين المشهود لهم بالتقوى والأمانة، للتوجه إلى مكان الظهور ومعايشة الحدث لأكثر من يوم واستقصاء شهادات الشهود، ثم كتابة تقرير عن كل ما توصلوا إليه، يرفع للبابا ومجمع الكنيسة الذى يصدر بدوره بيانًا ينفى أو يؤكد الظهور».

واتفق معه الباحث القبطى كمال منير بقوله: «الأقباط أصبحوا مغيبين ويبحثون عن المعجزات بسبب نوعية الوعظ والتعليم فى الكنيسة، التى ابتعدت عن الحضور الإلهى فى الأفخاريستيا وأسرارها، وشركتنا فى الثالوث القدوس، وتهتم بالمعجزات والخوارق غير الطبيعية»، مستدركًا: «نحن لا ننكر الشفاعة وحدوث المعجزات، لكن لا ينبغى أن تكون الهدف ومحور الإيمان، لأن الإيمان فى أساسه يكون بأشياء غير منظورة».

وكشف عن أن ظاهرة وقوف الحمام على أكتاف أو رءوس رجال الدين المسيحيين بدأت من أيام الأنبا ميخائيل، وكان من المعروف إطلاقها أثناء مراسم «الزفة» أو «الدورة»، للدلالة على «النقاء» خاصة أننا نطلق على العذراء «الحمامة الحسنة»، لكن الآن تحول «الرمز» إلى «معجزة واجبة التقديس»، بل إن الأسقف يسمح بالتقاط صور فوتوغرافية ومقاطع فيديو له وعلى رأسه أو كتفه حمامة، معتبرًا ذلك «عبثًا بإيمان البسطاء الذين أصبحوا يتخيلون أن الحمامة هى العذراء».

الحمام رفيق «تجليات أم النور» ولقبها.. ورسالة السماء لتأييد المسيح
«لماذا الحمام تحديدًا؟ وما رمزيته لدى الأقباط؟».. سؤال يجيب عنه الواعظ كريستوفر لحظى، خريج معهد الدراسات القبطية أحد خدام إيبارشية أسيوط، قائلًا: «إن طيور الحمام تحظى بمكانة عالية فى الكنيسة المصرية، خاصة أن الإنجيل جاء فيه أن السماء أيدت السيد المسيح عن طريق حمامة، أثناء نزوله فى مياه المعمودية على يد يوحنا المعمدان». وأضاف: «من يومها والشعب القبطى يتبرك بالحمام ويتفاءل به، ويتخذه رمزًا للوداعة والسلام الداخلى ودليلًا على تأييد الله للأشخاص».

وأشار إلى أن الكنيسة المصرية شهدت وقوف حمامة على المكتب الخاص بالبطريرك الراحل شنودة الثالث، أثناء إلقاء عظته الأسبوعية فى كاتدرائية الأقباط الأرثوذكس الكبرى، ما جعل الحضور يهتفون ويصفقون للبابا بشكل هيستيرى، اهتزت له أرجاء الكاتدرائية.

وأضاف: «على الرغم من أن هذا الحدث كان حديث الساعة وقتها، لم يصدر المجمع المُقدس أى بيانات تجزم أن ما حدث كان ظهورًا للسيدة العذراء».

وقال عزيز وصفى، مدرس علم تاريخ الكنيسة فى إحدى المدارس المتخصصة فى تأهيل الشمامسة، إن الأقباط ربطوا بين السيدة العذراء والحمام منذ ظهورها الأكبر والأوضح فوق منارات وقباب كنيستها بشارع طومان باى بمنطقة الزيتون فى القاهرة عام ١٩٦٨.

وأوضح: «وقتها انطلقت عدة أسراب من الحمام قبيل أن تتجلى علانية بحسب اعتراف المجمع المُقدس للكنيسة القبطية برئاسة البابا الأسبق كيرلس السادس وبحسب ما نُشر فى الصحف القومية وأبرزها صحيفة الأهرام».

وأضاف: «الأمر ذاته تكرر فى ظهورى كنيسة الشهيدة دميانة فى شارع بابا دبلو بحى شبرا مصر، وكذلك ظهورها المعترف به حديثًا فى كنيستها بحى الوراق بمحافظة الجيزة». وقال البابا الراحل شنودة الثالث، فى كتابه «السيدة العذراء مريم»، إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تُلقب السيدة العذراء بـ«الحمامة الحسنة»، متذكرين الحمامة الحسنة التى حملت لنوح غصنًا من الزيتون، رمزًا للسلام، وتحمل إليه بشرى الخلاص من مياه الطوفان.. «تك ٨: ١١»، مضيفًا: «بهذا اللقب يبخر الكاهن لأيقونتها وهو خارج من الهيكل، وهو يقول (السلام لك أيتها العذراء مريم الحمامة الحسنة)».

وتابع: «العذراء تشبه الحمامة فى بساطتها وطهرها وعمل الروح القدس فيها، وتشبه الحمامة التى حملت بشرى الخلاص بعد الطوفان، لأنها حملت بشرى الخلاص بالمسيح».