نبيل عبد الفتاح
الإنتاج السياسي حول الهوية، من الجماعات السياسية المتصارعة – طيلة أكثر من خمسة عقود مضت – لا يعدو أن يكون صياغة أيديولوجية، تتسم بالعمومية والغموض، والثقافة السياسية السلطوية، التي تريد فرضها على مكونات الأمة المصرية. وغالباً ما يمتد هذا الإنتاج – التخيلي والمفهومي – حول الهوية المصرية، ليشمل علاقات مصر بالإقليم العربي، ويمتد من الدائرة العربية إلى الدائرة الإسلامية.

لا توجد تنظيرات رصينة حول الهوية – في الأدبيات السياسية والتاريخية المصرية – إلا استثناء؛ بعضها يشكل سردية تاريخية مركبة، حول الاستمرارية في التاريخ، من حيث الوجود والحضور الحضاري المصري؛ وعلى رأسها «نشأة الروح القومية المصرية 1863-1882» لصبري السربوني، و«تاريخ الحركة القومية» لعبد الرحمن الرافعي، وأحاديث المؤرخ البارز شفيق غربال التسعة في الإذاعة، والتي صدرت في كتاب «تكوين مصر»، وذلك حول الحلقات التاريخية، واتسمت بالعمومية، وكتاب أستاذنا حسين فوزي «سندباد مصري»، أحد أهم الكتب التي صدرت بعد الحرب العالمية الثانية، وفق صديقنا وأستاذنا أنور عبد الملك، وكتاب الأخير «نهضة مصر».

وهي كتابات رصينة وتأصيلية، محورها المركزي الفاعلية التاريخية للمصريين، التي تدور حول الخصوصية التاريخية والثقافية والسياسية، لكفاح الشعب في جميع المراحل التاريخية. ويركز أنور عبد الملك على التشكلات التاريخية للدولة والأمة المصرية الحديثة، وكذلك كتاب الأستاذ العميد طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر». وانطلاقاً من الجغرافيا السياسية، وظلها في التاريخ، يأتي كتاب جمال حمدان العمدة «شخصية مصر الوجيز»، ثم أجزاؤه الثلاثة المطولة.

هذه الكتابات التأصيلية – من وجهة نظر كتّابها البارزين – لا يخلو بعضها من تحيزات لبعض مكونات الهوية المصرية، والتركيز عليها، أو الجمع بين هذه العناصر التكوينية؛ وهو ما يحمل بعضاً من النزوع الأيديولوجي. نادرة هي الكتابات الإسلامية السياسية حول الهوية، وجعلها محض شعارات أيديولوجية حول الجامعة الإسلامية والخلافة، لا يمكن أيضاً إغفال كتاب «تاريخ الأمة القبطية» للمؤلف يعقوب نخلة روفيلة، الذي صدر عام 1898 في طبعته الأولى، والثانية عام 2000.

شحيحة الكتابات النظرية أو الحقلية التي درست مفهوم الهوية المصرية، انطلاقاً من المزاوجة بين التأصيل المفهومي للمصطلح، وتطوراته في العلوم الاجتماعية، ثم تشكلات هذا المفهوم في الإطار التاريخي. والأهم هو الانتقال من النزعة النخبوية – واختياراتها وتحيزاتها – إلى اختبار تصوراتها في الواقع الاجتماعي.

من هنا.. ظل مفهوم الهوية التخيلي صراعياً، ولم يتبلور كمفهوم في السجالات العامة إلا في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك؛ في مرحلة سطوة الحركة الإسلامية السياسية والراديكالية، وتمدد الجماعات السلفية، وتركيز هؤلاء على الديانة.. والعقيدة.. والشريعة الإسلامية – كل وفق تأويلاته الوضعية المتشددة – كأساس للانتماء والهوية للمصريين، وذلك من خلال الأطروحات العامة والغائمة.. وراء شعار «الإسلام هو الحل»، وتطبيق الشريعة الإسلامية. ومن ثم ضرورة إقامة الدولة الإسلامية – ونظامها القانوني – بديلاً عن البناء القانوني الوضعي الحديث؛ الذي أسهم في تأسيس وتطوير الدولة المصرية، وهندساتها القانونية والقضائية. نتج عن ذلك تسييد أنماط جديدة في الحياة الاجتماعية الحديثة، انطلاقا من الطروحات حول الدولة الإسلامية؛ أهم ملامحه استراتيجية التسمية الدينية، والدمج بين الشعار الديني السياسي، وبين التقسيمات الشكلية لمفهوم الدولة القانوني الغربي.

ومن ناحية أخرى، التركيز على المادة الثانية في دستور 1971،
التي ذهبت – في تعديلها الثاني – إلى أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، كأساس دستوري وضعي.. في المطالبة بتديين النظام القانوني المصري. ثمة نسيان وتجاهل للتكوين التاريخي السياسي والاجتماعي والثقافي الحديث والمعاصر – من مطالع النهضة الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر، وحتى المرحلة شبه الليبرالية وما بعدها – في تكوين الأمة الحديثة، في إطار تطور الحركة القومية المصرية المعادية للاستعمار الغربي، والكفاح الوطني من أجل الاستقلال، وحماية الدولة الدستورية (المتمثلة في) دستور 1923، ومن ثم تطور مفهوم القومية والأمة المصرية الحديثة.

أغفل منظِّرو الحركة الإسلامية وقادتها هذا الإطار التاريخي الاجتماعي والسياسي والثقافي المصري، في أطروحاتهم العامة عن الدولة الإسلامية، وهويتها الأحادية الدينية، مع إغفال التعدد الديني لمكونات الأمة المصرية، وبعدها العروبي الجديد؛ في ظل الشحوب المفهومي والتاريخي للهوية من المنظور الأيديولوجي الإسلامي الحركي.

ذهب بعض الباحثين إلى استخدام مفهوم الخصوصية الثقافية والدينية، كإطار لطرح مسألة الهوية، وتأصيله نظرياً من منظور إسلامي، وتحولت تلك الخصوصية إلى قناع آخر من أقنعة الأيديولوجيا الإسلامية السياسية، بهدف التمايز عما أطلق عليه المشروع الغربي، واستخدام المفهوم الغربي الحداثي عن الخصوصية، كداعم لأطروحات – ما أطلق عليه مجازاً – المشروع الحضاري الإسلامي، الذي لم يتعد حدود الشعار إلا قليلاً، وفي حدود الأمنيات الفكرية المتخيلة. .. (للحديث بقية).

نقلاً عن «الأهرام».