سطور من كتاب : قراءة فى واقعنا الكنسى

كمال زاخر

2015
تشهدُ الأديرة خاصة الكبيرة منها تطوراً نوعياً أخر وهو قَصرُ الرهبنة على حاملى المؤهلات الجامعية، وتغلق بابَها ـ إلا قليلاً ـ فى وجه الباقين، من حملة المؤهلات المتوسطة أو ما دونها، فى تطورٍ فرضه احتياجُ المنظومة الرهبانية إلى حالةٍ من التجانس وتوفر حالة من التقارب الفكرى والذهنى، وربما احترازاً من وصول أحد غير الجامعيين الى الرتب الأسقفية، أو قيادة الكنيسة، الأمرُ الذى يفجِّر العديدَ من التساؤلات حول ماهية الرهبنة وحصر دورها فى الاختيار لهذه المناصب، وعن التأسيس للطبقية فى هذه المنظومة، وربما يقترب هذا بنا من تفهم ما حدث بوادى الريان الذى يقبل كل من يقصده دون اشتراط مستوً معينٍ للتعليم المدنى. فكان أن انقسم الدير إلى تجمعات طبقية كانت وراء المصادمات التى تحولت إلى بلاغات ومحاضر بالشرطة، بعد أن بدا أن الديرَ خرج عما استقر بمنظومة الرهبنة على مدى ما يقرب من نصف قرن.

ومع التراجعات المتتالية فى منظومة الرهبنة تقلصت مساحات التلمذة وانحسرت وكادت تختفى فعلياً، لتفقد الرهبنة فى كثير من مواقعها أحد أهم آليات تكوين الراهب، وتطعيمه فى سلسلة التسليم الآبائى، ومن ثم يتحول إلى عبء على الخدمة والدير وينقل تجارب وخبرات وربما صراعات العالم الى منظومة الرهبنة، برؤيةٍ ذاتية، تفتقرُ للروح الكنسية الآبائية فكانت النماذجُ التى ترى فى الحوار خروجاً وشططاً غير مقبول، وصدروا مفاهيم الطاعة الرهبانية الى الفضاء الكنسى بينما تراجعتْ نفسُ المفاهيم داخل التجمعات الرهبانية، فجفت الأغصان خارج الدير وداخله، وصرنا نرى شبه دير وشبه كنيسة وشبه فضائل، وشبه تعليم آباء.

هل يفسر لنا هذا حالة الإزدواجية التى تغشى شبابنا، يحرصون على شكل العبادة، اصواماً وصلوات، وزيارات مكوكية لا تنقطع للأديرة، وعلاقات وثيقة مع آباء كهنة ورهبان بل وأساقفة، بينما الحياة اليومية والعلاقات البينية الأسرية وفى دوائر الخدمة منقطعة الصلة بأبسط قواعدها بحسب منظومة القيم المسيحية، وتقدم لنا شبكة التواصل الإجتماعى نماذج صارخة تشهد على هذا التراجع حتى تخالها شبكة التقاطع الإجتماعى.

هل للأمر علاقة بالبدايات المعاصرة؟، فحتى منتصف القرن العشرين كانت الأديرة تجمعاتٍ رهبانية بعيدة عن العمران، تحتفظ بخصوصيتها لا يطرق بابها إلا نفر قليل، لأسباب مختلفة، وكان أغلبُ قاطنيها من البسطاء والصورة الذهنية المستقرة خارجها عنها مشوشة وملتبسة، حتى بدأ عصر الرهبان الجامعيين، الذى دشنه الأبُ متى المسكين والأبُ مكارى السريانى (1948)، كل فى اتجاه، ثم بدخول الأب انطونيوس السريانى وبعضٍ من رفاقه (1954)، لتشهد الأديرة نقلة نوعية على عدة محاور، وتنتقل من العمل اليدوى إلى استصلاح الصحارى وما ترتب عليه، وتنتظم الرحلات إلى الأديرة، خاصة من شباب الخدام، وتتغير طبيعة الحياة الديرية، وتختل النذور الرهبانية عند غير قليلٍ من الرهبان، ويقتحم العالمُ أروقة الدير، وينزعج الرهبانُ التقليديون، ويضطرب الفضاءُ الرهبانى، ويتوارى الشيوخ، ومن ثم تختفى التلمذة، ويتطلع البعضُ الى الرتب الأسقفية، وتتبدل معايير الإختيار، ونصبح أمامَ إشكاليات جديدة، تلقى بظلالها على المجتمع الكنسى وعلى المجتمع القبطى، خاصة فى عصر السموات المفتوحة، والتطور المتلاحق فى آليات الإتصال، ودخول الإعلام فى المشهد، وقد اكتشف فى الكنيسة والدير تشابكاتٍ وقضايا تستحق عنده المتابعة والنشر وما تحمله من إثارة، ورأى البعض فيها ما هو ابعد من ذلك فأطلت السياسة برأسها ومعها صراعاتها وتطلعاتها وأهدافها، ولم يكن إقتحام الإعلام والسياسة بريئاً فى كثير منه.

لا يتوقف الأمرُ عند نوعية طالبى الرهبنة أو من تم قبولُهم فى صفوفها، أو غياب التلمذة واختلالات العلاقات داخل الأديرة، أو عدم اكتمال التكوين الرهبانى قبل الإختيار للمواقع التدبيرية، وانعكاسات هذا بالتبعية على أداءات بعض من الأساقفة والمدبرين، وما ينتجه من مشاكل عديدة، لكن كان لضعف الكنيسة المحلية بالقرية والمدينة دور فى اندفاع الشباب لتلمس النصيحة والتعليم عند الأديرة، خاصة بعد أن ارتسمت فى ذهنه صورة طوباوية عنها، لتشهد الأديرة زحفاً متواتراً من الشباب للزيارة والجلوس إلى الرهبان، وتخصص الأديرة أماكن لمكوث الشباب بشكل مؤقت ليوم أو أيام، عُرفت ببيوت "الخلوة"، يُخصَص لها أحدُ الرهبان لمتابعة قاصديها، وهى تجربة تحتاجُ لتقييم موضوعى فقد انعكست فى بعضها سلباً على الدير والكنيسة والشباب، وتقف وراء عديد من الإشكاليات التى اقتحمت المشهد الكنسى، مع الأخذ فى الإعتبار أنها ـ بيوت الخلوة ـ تمثل حلقة هامة فى دعم وتطعيم الأديرة بطالبى الرهبنة الجدد بحكم اقتراب مرتاديها من الحياة الرهبانية اليومية حال وجودهم فى فترة الخلوة، ومن ثم يصبح الإهتمامُ بها أمراً وجوبياً.

ونرصد أن الأديرة ـ فى أغلبها ـ صارت واحدة من مراكز الثقل الإقتصادى، على مستويات متعددة، الأمر الذى كان يتطلب تطوراً موازياً فى منهج الإدارة الديرية من داخل ومن خارج، بما يحقق التوازن بين "عمل اليدين" والإلتزامات الروحية اليومية للراهب، فلا يصاب بالضجر ولا تستغرقه متطلبات العمل، وبما يحقق اهدافَ الرهبنة التى تأسست وعاشتْ من أجلها، ودورها الحيوى فى حياة الكنيسة.

هل تحتاج الرهبنة إلى ابتكار نسقٍ وسيط بين شكلها التقليدى وبين احتياج الكنيسة لطاقاتها فى منظومة التعليم ودوائر العمل الإجتماعى، "أخوية المكرسين"، أو نحسبه إعادة إحياء خدمة "الدياكونية المكرسة"؟.