دراسة تكشف دور المسيحيين في تأسيس الحركة الشيوعية بمصر عام 1924، ولعبوا دورا مهما في التبشير به والترويج له.

باتت الميولات السياسية للمسيحيين في العالم العربي محل اهتمام، في ظل الصعود الكبير لتيارات الإسلام السياسي المتنوعة في كثير من الأقطار العربية. وتنامت خلال السنوات الماضية تصورات تشير إلى إحجام المسيحيين العرب، باستثناء لبنان، عن ممارسة السياسة كنوع من المقاومة السلبية لمعضلة تسييس الدين.

القاهرة – طرحت دراسة جديدة صدرت مؤخرا في القاهرة جملة من التساؤلات حول جنوح المسيحيين المصريين إلى حركات اليسار كبوتقة جامعة لممارسة السياسة، وعدم ميلهم إلى التيار الليبرالي. وهو ما يحمل وجاهة لها علاقة بطبيعة المجتمع والأدوات الحاكمة له في كل عصر.

وذكرت الدراسة التي أعدها الكاتب والباحث القبطي سليمان شفيق، وصدرت في كتاب عن دار “مجاز” للنشر بعنوان “المصريون المسيحيون ودورهم في تأسيس الحركة الشيوعية” أن ميلاد الحركة الشيوعية في مصر خلال العشرينات من القرن الماضي، جرى على يد مفكرين مسيحيين اعتبروا الفكر الماركسي الأقدر على تقديم حلول ناجعة لمشكلات المجتمع.

وردّت على التصور المتكرر بميل المسيحيين، كأقلية دينية في مصر، إلى الانزواء وتجاهل العمل السياسي، وكشفت بوضوح الدور الذي لعبه مفكرون ومثقفون مسيحيون، مثل سلامة موسى وشبلي شميل وعزيز ميرهم، في التبشير بالشيوعية داخل مصر.

ويبدو مفاجئا للبعض أن الدراسة كشفت عن قيام سلامة موسى بوضع كتاب بعنوان “الاشتراكية” عام 1910 استعرض فيه أفكار كارل ماركس قبل قيام الثورة البلشفية في أكتوبر 1917، ما يسبق ميلاد الحركة الشيوعية في العراق ولبنان، وهما من أقدم البلدان العربية التي شهدت قيام أحزاب شيوعية.

كمال زاخر: الحياة السياسية في مصر لم تعد جاذبة لأي فئة بمن فيها الأقباط


واعتبر موسى، في ما بعد، من بين أربعة مصريين أسسوا الحزب الشيوعي المصري عام 1924، ولعبوا دورا مهما في التبشير به والترويج له. ودفع ثمن ترجمته ونشره للفكر الاشتراكي في مصر من خلال موجات هجوم تكررت عبر الأجيال، لتخلط بين كونه “مسيحيا معاديا للإسلام”، و”شيوعيا مُنكرا للأديان جميعا”، وهو ما لم يكن صحيحا.

وركز مروجو ومنظرو التيار الديني في مصر أثناء ذروة صعود الإسلاميين في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي هجومهم على سلامة موسى باعتباره “معاد للإسلام وداعية هدم له”، لدرجة وصلت بالكاتب الإسلامي محمد عمارة أن وصفه في أحد مؤلفاته بـ”عميل الاستعمار والغرب” في مصر.

لم يكن ذلك صحيحا، لأن أفكار الرجل بُنيت على رفض مشروع الإسلام السياسي مبكرا، وقبل أن تظهر المخاوف الراهنة، وليس الإسلام نفسه، وهو ما جعله يكتب يوما “إن الإسلام لا يؤذي غيره، ويعمل على التسامح والإخاء ومن يسب الإسلام يسب بلادي”.

دعم التيار اليساري
لعب مسيحيون مصريون دورا مهما في نشر الكثير من الأفكار الشيوعية بعد ذلك، وأبرزهم مجموعة من المسيحيين من أصول شامية، مثل شبلي شميل وفرح أنطوان وأنطوان مارون.

ويرجع الانتشار السريع للفكر الشيوعي في مصر خلال منتصف العشرينات من القرن الماضي إلى التطور الصناعي الكبير في ذلك الوقت، ونتج عنه نشوء مشكلات عمالية عديدة استلزمت تعريفا وتحديدا لحقوق العمال والتزاماتهم، ما ساعد على تقبل المجتمع للأفكار الجديدة التي طرحها المفكرون المسيحيون. وكانت نظرة المجتمع المصري للمفكرين المسيحيين أمثال سلامة موسى وشبلي شميل وغيرهما، نظرة تقدير وامتنان، وبعيدة عن التعصب والطائفية، في ظل خلو الساحة الفكرية من تيار الإسلام السياسي، الذي ولد في مصر مع نهاية العشرينات بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا.

لم يكن غريبا أن تشهد مصر في الربع الأول من القرن العشرين تولي اثنين من المسيحيين المصريين منصب رئيس الوزراء، ثاني أهم منصب بعد الحاكم ( السلطان أو الملك)، وهما بطرس غالي باشا ويوسف وهبة باشا.

ويشير سليمان شفيق، مؤلف الكتاب، لـ”العرب”، “إن مخاصمة المسيحيين للسياسة في مصر ليست حقيقية، لكنّ هناك إحجاما عاما عن ممارسة السياسة في مصر في الآونة الأخيرة”.


وأوضح أن الأقباط مارسوا السياسة مبكرا وبشروا بالأفكار الجديدة باعتبارهم مصريين في المقام الأول، منذ إسقاط الجزية عنهم في سنة 1855 وتجنيدهم في الجيش سنة 1856، وانضموا مبكرا للأحزاب السياسية، حيث شارك 11 مسيحيا في تأسيس حزب الأمة، وهو أقدم الأحزاب في عام 1907.

وتابع قائلا “دورهم لا ينكر في أي من أحداث مصر العظيمة بدءا بثورة 1919 التي حظيت بمشاركة ودعم الكنيسة، وحتى ثورة 30 يونيو 2013 ضد جماعة الإخوان”.

وفي تصور شفيق فإن المسيحيين المصريين يميلون إلى اليسار بشقيه الماركسي والناصري، لكن هناك إشارات سلبية تجاه جمال عبدالناصر، منها خلو تنظيم الضباط الأحرار من أي شخصية مسيحية، لكنه (عبدالناصر) أثبت في ما بعد بمواجهته للإسلام السياسي إيمانا عميقا بفكرة المواطنة.

ومن وجهة نظر شفيق فإن موقف الفكر الماركسي من الدين بشكل عام “ساهم في تفضيل المثقفين المسيحيين له كتوجه يحترم الدين، ويبقيه بمنأى عن استغلال البشر له في صراعاتهم السياسية”. كما أن الكنيسة المصرية لم تعاد الفكر الماركسي ورواده، وظلت تحمل تقديرا كبيرا للمفكرين المسيحيين من ذوي التوجهات المؤيدة له، وتدعوهم إلى احتفالاتها ومناسباتها الدينية، وأبرزهم الراحل أنور عبدالملك وميلاد حنا وفخري لبيب وعريان نصيف وغيرهم.

يبدو لافتا أيضا أن المسيحيين اليساريين لم يضعوا الموقف من الدين على جدول أعمالهم حتى في أشد خلافاتهم مع الإكليروس.

تراجع الحراك السياسي


من هُنا يمكن قراءة ما يتصوره البعض أنه إحجام عن المشاركة السياسية للمسيحيين في الوقت الحالي، إذ يؤكد تراجع اليسار على المستوى التنظيمي بشكل عام غياب البوتقة الجاذبة للمُسيسين المسيحيين، فضلا عما أسماه البعض بـ”موت السياسة” في الشارع نتيجة اتساع الاستقطاب وتضييق النطاق على الحريات عموما.

وفي تصور المفكر القبطي كمال زاخر فإن الحياة السياسية في مصر لم تعد جاذبة لأي فئة بمن فيها الأقباط، في ظل ضعف الأحزاب وعدم قدرتها على التماهي مع رغبات وتطلعات الشارع.

وتابع زاخر لـ”العرب”، أن “تجربة التعددية السياسية في مصر تم إعدامها في سنة 1953 (يقصد بعد ثورة 23 يوليو 1952)، وغابت تماما في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، ثم ولدت موجهة ومحدودة التأثير خلال حقبة الرئيس أنور السادات، وظلت كذلك خلال عهد حسني مبارك.

وبعد ثورة 25 يناير 2011 انكشفت الأحزاب تماماً، واتضح أن معظمها يُدار من خلال رجل واحد ممول يتحكم في كل شيء تقريبا، وكان ارتباطها بالشارع محدودا، ما دفع المجتمع بشكل عام إلى تجاهل وجودها تماما.

ورغم تراجع دور الأحزاب وتأثيرها في الحياة السياسية، غير أن قطاعا من المسيحيين المصريين تمرد على سلطة الكنيسة وجمعها بين الديني والسياسي، وينشط هؤلاء في اتجاه الضغط على قيادة الكنيسة للتركيز على قضاياها الروحية فقط.

ويبقى نشاط وخمول الأقباط في مصر مرتبط بالمساحة العامة للحريات المتروكة للمصريين، بصرف النظر عن ديانتهم.