فاطمة ناعوت
ابتهج الشارعُ الثقافىّ بتكليل هامة الدكتور جابر عصفور بجائزة «النيل». لأن فى هذا رباطًا أبديًا بين اسمٍ عظيم فى حقل الفكر والأدب والنقد، وقيمةٍ مصرية وتاريخية عظيمة هى النهر الخالد، حابى، الأب الأبدىّ للمصريين.

جابر عصفور أستاذنا الذى علمنا لامحدودية التفكير وحرية التعبير دون الخضوع لطاغوت الدوجمائيين. وهو الفارس الذى ساند كل صاحب رأى، فى مصر والعالم، طاردته سياط التكفيريين بقضايا الحسبة وتنويعاتها.

ولسبب ما، يتحرّجُ القلمُ من الكتابة عن رجالات الدولة، والإشادة بما يصنعون من إيجابيات. وبرغم أن هذا غير موضوعى لأن الإشادة بالإيجابيات لا تقل نفعًا عن انتقاد السلبيات، لكن القلم يعزف عن الإشادة بالمناصب. بينما يجرى القلمُ فوق صفحات الأوراق فرِحًا حال الكتابة عن الأساتذة المُعلّمين الذين حملوا مشاعلهم لتنوير دروبنا. ويحدث الصراعُ الدراماتيكى حين يصبحُ «الأستاذُ» أحدَ «رجالات الدولة». هنا، تُرفعُ الأقلامُ وتَجفُّ الصُّحفُ، وينذر القلمُ للرحمن صومًا، حتى يخلعَ الأستاذُ عباءةَ الدولة، ويدخل من جديد فى عباءة المُعلم. حينئذ يعودُ للقلمِ مدادُه الحُرُّ، وينطلق غير آبه بعالم الحسابات والبراجماتيات. فقد عاد الأستاذُ إلى مقعد الأستاذية الذى لا يليق إلا به، وزال عن القلم الحرجُ والعزوف.

لهذا أكتبُ اليومَ عن العصفور «الأستاذ» لا «الوزير»؛ الذى علّمنى وعلّم أساتذتى؛ وتكلّلت هاماتُنا جميعًا بإكليل النيل، يوم تكلّل هو به.

ولأنه عصفورٌ، فإنه يكره الظلام الذى يظلل مجتمعاتنا بكدر الرجعية ويعوّق عجلاتها على درب التقدم. ولأنه عصفورٌ، فهو يكره الأقنعةَ التى يتخفّى وراءها القنّاصون يطاردون الفلاسفة والمبدعين والعلماء؛ فنذر عمره، إلى جوار مشروعه النقدى والأدبى، لإسقاط أقنعتهم وكشف وجوههم حتى يرى العامةُ دمامتَهم فيكفوا عن اتباعهم. ولأنه عصفور، فهو يكره القيود والأغلال؛ لهذا كسر السوار الذهبىَّ الذى زيّن معصمه بعد عشرة أيام، فقط، وعاد ليحلّقَ طليقًا فى رحب السماء يُغنّى، ويعلّم صغارَ العصافير كيف تُغنّى فى حرية وهى تُحلِّقُ. وقت حمل حقيبة الثقافة الوزارية للمرة الأولى فى نهاية يناير 2011، لم يكن المناخ صالحًا للعصافير الحرّة، لهذا طار بعيدًا، بعد أيام، تاركًا لهم الرغد والجاه؛ مكتفيًا بسنبلة قمح نحيلة ينثر حبّاتِها على أولاد حارتنا المُتعبين. وبعد ثورتنا الشريفة التى أسقطت إخوان الظلام، انتظم الشدوُ الطيب، وطرد زعيقَ النشاز، فوافق العصفورُ أن يعود لمقعد المسؤول من جديد منتصف 2014، بشروطه الحرّة، لا بشروط القيد الذهبى، حاملًا مشعل التنوير فى مواجهة الإظلام.

عصفورٌ حرٌّ يعشق النورَ، ويكره العتمةَ، شأنَ العصافير. يعشقُ الحريةَ ويحطم الأصفادَ، كما يليق بأنجب مَن حمل مشعل د. طه حسين. لهذا، فأنتِ يا مصرُ محظوظةٌ أبدًا بأبنائك، فثمة «طه حسين» فى كل جيل، فلا تحزنى!.

فى حفل افتتاح «المهرجان القومى للمسرح» فى دورته السابعة ألقى وزيرُ الثقافةُ آنذاك د. جابر عصفور، كلمة ساحرة قال فيها: لن تُطفأ أنوار مسرح فى أى بقعة من بقاع مصر لأن لا شيء سيدحر طاعون داعش، إلا المسرحُ الراقى، والأدب الراقى، والفكر الراقى، والتنوير الحقيقى. وتعهد بأن تنتشر الثقافةُ الجماهيرية المستنيرة فى كل نجع وقرية وحارة وشارع من أرض مصر. وقال إن القادم أجملُ؛ لأننا شعبٌ عظيم يستحقُّ أن يعيش حياة كريمة، ولا حياةَ كريمة دون فنون راقية، والمسرح أبو الفنون الراقية. ثم قال فى الأخير: «احلموا، فإن الحُلمَ.. حياةٌ».

د. جابر عصفور، لن نتخلى عن الريشة التى سنرسم بها أحلامنا، وأثقُ أننا قادرون على تحقيق تلك الأحلام، مادام فى مصر مستنيرون يحملون مشعل طه حسين، وزكى نجيب محمود، ومحمد عبده، وجابر عصفور، وأضرابهم. حلمتَ وحلمنا، ونحلمُ أن تغدو مصرُ كما يليق باسمها العريق الذى كتبتْ به السطرَ الأول فى كتاب التاريخ. أن تعود مصرُ كما كانت قبل نصف قرن، وكما تركها لنا أستاذُك وأستاذنا، العظيم طه حسين. هنيئًا لك عودتك لمقعد الأستاذ الذى يزهو بحمل العقول المنيرة النيّرة. وهنيئًا لك جائزة النيل الرفيعة، وهنيئًا لنا وقوفنا على بابِك من جديد، لنتعلّم، ونفخر بأننا فى زمن جابر عصفور. «الدينُ لله، والوطنُ لمَن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم