صباح الأحد الماضي، أعاد محمود طلبه على الطبيبة "عايز أخرج ولو ليومين"، أجابته أن مَن يرد رؤيته ستحضره له إلى مكانه في المعهد ولعل حالته الصحية تتحسن قبل عيد الأضحى فيغادر، حمل الفتى في نفسه الأمل، وشاركته والدته طيف الرجوع إلى ديارهم بعد غياب طال منذ رابع أيام عيد الفطر المنصرف، تاقت الأم للقاء أبنائها الآخرين ولم شمل الأسرة بعد انقطاع ثلاثة أشهر، لكن مع دقات الحادية عشرة والنصف مساء ذلك اليوم؛ انهار الوضع الصحي للفتى مريض سرطان الدم "لوكيميا" كواجهة ومحتويات معهد الأورام بعد التفجير لكنه لم يجد إلى الأن من يعيد صيانته.

 
في الطابق السابع داخل معهد ناصر، جلس محمود على سرير واستقرت والدته على مقعد مقابل، يعكس المكان حال صاحب التاسعة عشر عاما، في الغرفة الخامسة جهة اليسار بين حجرات المرضى المنتقلين من معهد الأورام، تقاوم الشمس للدخول عبر بصيص من الستارة لكنها لم تفلح إلا بضي أصفر قاتم. يتألم الفتى "مش مرتاح. مش عايز غير إني آخد الدوا وأرتاح" لا غير تلك الكلمات يرغب محمود في الحديث.
 
جواره تواصل والدته عبير حلفاية دورها بثبات منذ علمت بمرضه في مايو الماضي، تربت عليه في حنو، تحدثه بلين عن الدواء الذي يعزف عن تناوله، تتماسك رغم ما تشعر به "إحنا في دوامة من يوم الانفجار مش عارفين نطلع منها".
 
بعينين ثابتتين كأنما اعتادت على الصدمات تستعيد والدة محمود ليلة الانفجار؛ في لحظات زلزلت الأرض تحت أقدام الأم وابنها. لم يكن مشهدًا سينمائيًا؛ رُجت الأرجاء رجا مع دوي انفجار، الجميع يفر من غرف الطوابق السبعة للمعهد، لا أحد يعلم السبب، لا يهم سوى إيجاد سبيل النجاة ولا مفر؛ خلعت عبير عن ابنها أنابيب المحاليل المتصلة برقبته، أسندته إلى ظهرها وهمت بالخروج.
 
لا تعلم عبير كيف بلغت بوابة المعهد لكنها فعلت، كأنما تمشي على سحب "كنا بنجري والشباشب اتقلعت من رجلنا وتحتنا إزاز لكن مفيش حاجة كانت في بالي غير إني أخرج بابني"، فلما جاوزا إلى الشارع أبصرت الأم ما هالها "لقينا نار فظيعة. المعهد 7 أدوار النار كانت طالعة لغاية فوق مدد شوفنا"، ركضت عبير بمحمود بما يفوق طاقتها ثم توقفت ونظرت، كأن المعهد صار على بعد أمتار تقدرها بردهة مستشفى طويلة، حينها وفقط علمت أنهما نجيا، فخرت ساجدة على الأرض، ثم استكملت الركض.
 
لم تكن تدري عبير أين تذهب؟!، تردد الدعاء في نفسها، فإذا بشاب يستقل دراجة بخارية، دون حديث طويل حمل محمود خلفه وانطلقا، ومن ورائهم الأم تركض "مكنتش عارفة راح بيه فين كنت زي المجنونة"، حتى عاد إليها صاحب الدراجة ونقلها إلى مستشفى قصر العيني، لتنقضي الليلة على محمود دون جرعته الثالثة التي كان ينتظر أخذها مع منتصف الليل وانقطعت إلى الآن "كان بياخد 6 محاليل الساعة 12 وزيهم الصبح والساعة 6 بالليل مكملات غذا ودوا لكن من ساعة ما انتقلنا مبياخدش حاجة".
 
إلى معهد ناصر انتقل محمود، ما زالت "الكانيولا" القادم بها من معهد الأورام يمين رقبته. رغم مشقة رحلة العلاج، وغربة الأم وابنها عن منزلهما في بني سويف واضطرارها للإقامة معه في المستشفى طيلة 3 شهور، لكن ما كان يتلقاه محمود من رعاية في معهد الأورام طالما هون عليها المصاب "كل حاجة كانت متوفرة وفي ميعاد.. الدواء والمكملات الغذائية والناس عارفة إزاي بتتعامل مع حالته"، اختلف المشهد كما تقول الأم مع الغياب المضطر للأطباء المتابعين للفتى؛ ترتفع حرارة محمود فيتلقى "إسبرين" كما تقول عبير، فضلا عن الارتباك الناتج عنه تأخير مواعيد الدواء.
 
"مش عارفة لو أخدت ابني وحاولت أروح مستشفى هرمل بتاعة الأورام هلاقي مكان ولا لأ" بلسان حال التائه تقول الأم. سبق أن أخبرها الأطباء أنه لا مكان متاح لمحمود في مركز الأورام المنتقل إليه حالات من معهد الأورام، فيما يوصيها آخرون بالصبر، فتزيد السيدة على ما بها صبرا وتقول بثبات "ربنا يجازي اللي عمل كده فينا المعهد كان بيعالج ياما وما كنوش مقصرين".
 
تعلم عبير بأمر الضحايا في معهد الأورام، فتزداد حمدًا على كفايتها من المصاب، بجلد حنون تشد على قدمي ابنها بينما يئن ألما، وقد تغير لون ذراعيه إلى الأزرق لنقص الصفائح الدموية، لا تأسى والدة محمود على ضياع آمال العودة بابنها إلى المنزل في العيد، تنظر إلى الهاتف فتطل صورته قبل أن يبدل المرض ملامحه "كان جميل أوي ولسه برضه جميل"، ألفت السيدة الألم لكنها روضته بقوة التعامل، من وفاة زوجها ومحمود في عمر عامين، ثم إعيائه وهو أصغر أبنائها بمرض فتاك، وتقف الأم صامدة، توقن أن الأجر على قدر المشقة، والعيد غائب حتى حين، فتبتسم قائلة "إحنا بس عايزين الناس والدكاترة تعرف إنها بتعمل اللي عليها وميتأخروش علينا في اللي إحنا فيه وربنا هو اللي في إيده الشفا".