د.جهاد عودة
نموذج الاعتماد المتبادل المركب يعتبر أن الدول تهتم بمنافعها الخاصة و لن تعارض أن تقوم دول أخرى بزيادة قوتها، لأن "كوهين" و "ناي" يؤمنان بأن الدول ليست محكومة بأن تكون قوة مهيمنة إلى نهاية التاريخ، حتى وإن كانت لديها مثل هذه القوة (الأطروحة الواقعية) فالدول لن تحاول زيادة قوتها عندما لا تكون في حال الخطر. وحين لا تكون الدول بحاجة لأن تتعامل مع المخاوف الأمنية، فإنها يمكن أن تبحث عن مزيد من التعاون وتحقيق أرباح اقتصادية وسياسية متبادلة.
 
فالاعتماد المتبادل المركب تم تعريفه من منطلق الأهداف ومن منطلق الوسائل المتاحة للحكومات، وفهم التغيرات في الاعتماد المتبادل المركب تتطلب حتما فهم التغيرات في الأولويات ضمن أهداف الدول.

الافتراضات الأساسية لدراسة الاعتماد المتبادل، يناقش كل من "كوهين" و"ناي" الاعتماد المتبادل ضمن سياق هذه الافتراضات الأساسية:

الطبيعة الرئيسية للعلاقات الدولية هي التغير لذا يصبح العالم أكثر تداخلا في الاقتصاد، الاتصالات والتطلعات الإنسانية.

الفواعل الرئيسية هي الدول و فواعل غير الدولة أي فواعل لا-إقليمية (كالشركات المتعددة الجنسية، المنظمات الدولية والحركات الاجتماعية العبر وطنية) مع قنوات متعددة من الاتصال: بين الدول، عبر الحكومات، عبر وطنية.

هناك تضاعف في القضايا غير ذات صلة بالشؤون العسكرية والتي كانت من قبل تمثل أهمية أقل نسبيا، بمعنى آخر هناك قضايا متعددة بدون تراتبية، فالأمن العسكري لا يهيمن بشكل ثابت على أجندة العلاقات بين الدول.

تلعب القوة العسكرية دورا صغيرا نسبيا في العلاقات الدولية لأنها "لا تستعمل من طرف الحكومات اتجاه حكومات أخرى ضمن الإقليم، أو حول القضايا عندما يسود الاعتماد المتبادل".

الاعتماد المتبادل المركب يعم أكثر في منطقة السلم الديمقراطي (المناطق الأخرى يهيمن عليها الأمن العسكري)، فالعالم خارج منطقة السلام والديمقراطية ليس عالما للاعتماد المتبادل المركب.

ثورة المعلومات زادت من أنماط الاعتماد المتبادل المركب من خلال الزيادة في عدد قنوات الاتصال في السياسة العالمية.

يتميز "الاعتماد المتبادل المركب "Complex Interdependence بالخصائص التالية:

إرتباط المجتمعات بالعديد من الروابط غير الرسمية بين النخب الحكومية، بالإضافة إلى الروابط الخارجية الرسمية وكذلك العلاقات غير الرسمية بين النخب غير الحكومية والمنظمات عبر القومية.

تتضمن أجندة العلاقات الدولية العديد من القضايا التي لا تتميز بتراتبية معينة في الأهمية. بمعنى أن قضايا الأمن العسكري لا تسيطر دوما على الأجندة الدولية.

تصبح القوة العسكرية غير ذات مغزى في حل الخلافات حول القضايا الاقتصادية بين الدول التي تسود بينها حالة من الاعتماد المتبادل المعقد.
وكنتيجة لهذه الخصائص الثلاث، تتطور عمليات سياسية متميزة والتي تحول مصادر القوة إلى قوة مراقبة/مسيطرة على نتائج إستراتيجيات الربط، إعداد الأجندة (Agenda setting) والعلاقات العبر وطنية والعبر حكومية.

قام كل من كوهين وناي بتطوير مفهوم آخر هو "الاعتماد المتبادل اللامتماثل (Interdependence Asymmetrical ) " وهو اعتماد يحدث علاقات قوة، "فكلما كان اعتماد متبادل لا متواسق إلى جانب طرف كان هذا الطرف هو الأقوى وأصبحت لديه مصادرا أكثر وزادت أفضليته أو أسبقيته في التأثير على نتائج ما يحدث". فالاعتماد المتبادل اللامتماثل يشير إلى وضعية يكون فيها الفاعل متأثرا جدا بقوى الفاعل الآخر. فالعلاقات القائمة على الاعتماد المتبادل تتضمن دائمًا تكاليف لأن استقلالية الخيار تصبح مقيدة. فعدم تماثل الاعتماد المتبادل هو الذي يوفر مصادر التأثير للدول في علاقاتها مع دول أخرى. فنقص الاعتماد المتبادل قد يكون مصدر للقوة، فإن كان هناك طرفان بينهما اعتماد متبادل لكن أحدهما أقل اعتمادًا فذلك يعد مصدر للقوة إذا ما نظرنا إلى القوة كمصدر سيطرة أو إمكانية التأثير في النتائج، فالفاعل الأقل تبعية في العلاقة غالبًا لا يملك مصادر سياسية هامة لأن التغيرات في العلاقة ستكون أقل كلفة من شريكه. إلا أن هذا التحليل ليس دقيقًا تمامًا، فالدولة الأقوى ليس بالضرورة أن تكسب دائمًا من خلال استخدامها للاعتماد المتبادل.

الخلاصة أن عدم التماثل هو أحد العناصر الجوهرية في سياسة الاعتماد المتبادل. وأن أغلب سياسات الاعتماد المتبادل تتضمن إيجاد أو صنع الترابط، والدول ترغب في استخدام الاعتماد المتبادل في المجالات التي تتمتع فيها بالقوة وتتجنب استخدامه في المجالات التي تكون فيها ضعيفة. وبناءً عليه فإن التناظر في الاعتماد المتبادل غير ممكن الحدوث بشكل كامل لأن عدم التناظر سمة أساسية للعتماد المتبادل، لكن هذا التناظر نسبي وبدرجات متفاوته، وهذا يترتب عليه نتائج فيما يتعلق بسياسات الدول تجاه بعضها، ويؤثر في توزيع القوى بينها، فالدول الأقل اعتمادية على الأخرى يكون لديها مصدر قوة نسبيًا أكثر من الدولة الأخرى الأكثر اعتمادية. ولكن على الرغم من ذلك، فهذه ليست قاعدة مطلقة فيمكن أن تتخذ الدولة الأكثر اعتمادية إجراءات ضد الطرف الاخر لكنها تكون أكثر عرضة للخسائر.

ضمن إطار هذين النموذجين: الاعتماد المتبادل المركب واللامتماثل يمكن استشراف آلية عمل الاعتماد المتبادل كميكانزم تحولي على المستوى الإقليمي فالمستويات المتزايدة من الاعتماد المتبادل تؤدى الى النتائج التالية:

تحول في مصادر القوة (من القوة العسكرية إلى قوة التحكم في النتائج : اللاتماثل في الاعتماد المتبادل هو مصدر هام للقوة في عملية المساومة. فمع تزايد الاعتماد المتبادل فإن الدول تسعى وراء عدد من الأهداف التي تتنوع حسب تنوع المسائل والقضايا. وستجد الدولة القوية عسكريا صعوبة في السيطرة أو التحكم في النتائج المترتبة عن الشؤون التي هي ضعيفة فيها. كما أن تزايد الاعتماد المتبادل يؤدي إلى أن القنوات المتعددة للاتصال تبدأ في تمييع الفروقات بين السياسة المحلية والسياسة الدولية و تصبح النتائج أكثر تأثرا بالعلاقات العبر وطنية. فالدول إذن تصبح غير مسيطرة بشكل كامل على العملية. الاعتماد المتبادل هنا ما هو إلا عملية مساومة سياسية التي تنقل مصادر القوة إلى قوة السيطرة والتحكم في النتائج (Control of outcomes) وبالتالي يمنح الاعتماد المتبادل تعريفا أوسع للقوة و لا يحصرها فقط في القوة العسكرية. بمعنى يحدث تحولا في مصدر القوة فيتم اشتقاق القوة من مصادر أخرى غير القدرات العسكرية. ألمانيا مثلا، رغم أنها ليست قوة نووية، فإن لها قوة مساومة هائلة في العلاقات الأوروبية نظرا لقدرتها الاقتصادية. كما أن فرنسا باقتصادها الكبير هي أقل تبعية في الوحدة الاقتصادية وبالتالي لديها القدرة على الفوز بإمتيازات من الدول الأخرى (مثل السياسة الزراعية المشتركة). إن فرنسا لم تستطع ربما الوصول إلى إقرار هكذا سياسة زراعية التي تفيدها بشكل خاص، عن طريق التهديد بقوتها النووية، ولكنها حققت ذلك من خلال المساومة القائمة على رغبة دول أروبا الغربية الأخرى في وحدة اقتصادية مع فرنسا. ففي علاقات الاعتماد المتبادل لا تصبح القوة العسكرية هي هدف كل شيء وهدف كل السياسات.

زيادة في مستوى التعاون السياسي: زيادة الاتصال بين التجار والمستهلكين الموجودين في بلدان متعددة يدعم حس الجماعة الدولية، كما يعزز أيضا تطوير الاحترام المتبادل والعلاقات المنسجمة. فزيادة مستويات التجارة يخلق تفاعلا أكثر، وهذا ما يؤدي إلى إمكانية أكبر من أجل تفاعلات إيجابية. فالتجارة والتبادل التجاري هما وسيلتان لزيادة التعاون من خلال الاعتراف المتبادل، كما أنهمما بمثابة رادع أمام أي نزاع مستقبلي. إذن الاعتماد المتبادل يؤدي إلى علاقات نوعية أفضل وليس مجرد القضاء على العلاقات السيئة.

تقليل احتمال نزاع سياسي-عسكري: يمنع الاعتماد المتبادل وقوع نزاعات دولية و يحول منطقة الاعتماد المتبادل إلى منطقة سلم، وذلك حسب أسباب منطقية لبيرالية مختلفة: واحدة من الأطروحات اللبيرالية تؤكد أن التجارة الاقتصادية تحل محل الغزو كوسيلة للتبادل وهذا ما يضعف المستويات المرتفعة من التراع، فما يمكن ربحه بالحرب يمكن الآن تحقيقه بواسطة التجارة. إن المستويات العالية من التجارة يمكن أن تزيل الحوافز القائمة على أسس اقتصادية للتراع و تؤدي إلى بيئة دولية (إقليمية) أكثر سلما. إن التجارة المفتوحة تكبح جماح التراع السياسي بواسطة ترقية الاعتماد الاقتصادي، أي أن التجارة المفتوحة تشجع التخصص في إنتاج السلع والخدمات وتجعل الخواص والمستهلكين تابعين للأسواق الخارجية.هذه الفواعل (التجار و المستهلكين) لديها الحافز لتجنب الحروب مع شركاء تجاريين أساسيين لأن العراقيل أمام العلاقات التجارية ستكون مكلفة. كما أن الحكومات سيكون لديها نفس الدوافع (دوافع لتجنب الحروب) لأن لديها الأسباب لتستجيب للمطالب المقدمة من الناخبين الرئيسيين (التجار و المستهلكين) وأن تقوم بتحسين الأداء الاقتصادي للبلاد. إن مستويات التجارة بين الدول ليست معلومات خاصة، لذا فالتجارة بحد ذاتها تستطيع أن تسبب واجب الاحترام و الالتزام بين الدول، بما أن الجهة الأخرى تعلم قيود الآخر عندما يدخل في منافسة مساومة مكلفة. فما تقدمه التجارة للدولة هو أرضية أوسع لانتقاء إشارات، لذا فإن دولتين بمستوى عال من التجارة هما أكثر قدرة على اتخاذ الإشارات (من خلال المراقبة الاقتصادية الحكومية أو من خلال الأسواق) التي ستتفادى الحرب. و بالتالي فإن نزاعات رئيسية سيتم ردعها بما أن الدول يمكن أن تستعمل التجارة كأداة (أو إشارة) لعرض الحل.

ففي أوروبا مثلًا أصبحت القوة العسكرية وسيلة غير فعالة للتحكم في النتائج، ليس فقط بسبب تهديد الحرب النووية، ولكن كذلك بسبب الاعتماد المتبادل الذي جعل تكاليف القوة العسكرية مرتفعة جدا. فأي عدوان عسكري من المحتمل أن يكلف فقدان الوحدة الاقتصادية مع أوروبا ويمكن أن يعزل الطرف المعتدي عن اتفاقات أمنية إقليمية (الناتو.
نقلا عن صدى البلد