كمال زاخر
ضمن مراجعات الإصلاح تأتى إشكالية "تجديد الخطاب الدينى القبطى الأرثوذكسى"، والسؤال هل يحتاج هذا الخطاب الى تجديد؟، ولماذا الآن؟،

ونجد أمامنا رأيان؛ إحداهما أن هذه الدعوة لا تخلو من غرض غير معلن، وهو احداث حالة من الموازنة مع الدعوة الملحة لتجديد الخطاب الإسلامى، ومحاولة تخفيف الضغط عليه واظهار الأمر على أنه حالة اجتماعية وثقافية تشمل الجميع وليست دينية، والثانى أن الخطاب الدينى المسيحى يحتاج للتجديد لكونه آلية تصل من خلالها رسالة المسيحية الى تابعيها، فضلاً عن ان الخطاب يتوجب أن يكون بلغة معاصرة يستوعبها ويفهمها المتلقى ويجد فيها اجابة على اسئلة اللحظة.

التجديد أمر تفرضه الحياة والتطورات التى تفرزها اليات التقدم وتقنيات التواصل والمعرفة، وطبيعة واحتياجات الأجيال الجديدة، لكن لماذا يواجه التجديد مقاومة على الأرض داخل الجماعة القبطية فى مواقع مختلفة بين القمة والسفح، وينظر إلى دعوته بكثير من التوجس والريبة؟

ربما التخوف من الذوبان فى كيانات اكبر نراها مغايرة لما نعتقده، بفعل عداءات تاريخية، وهو ما نشهده فى الجدل الصاخب الدائر حول الحراك المسكونى والقفز على متاريس التقارب مع الكنائس الأخرى، وربما التخوف من مراجعة ما استقر فى الذهنية الجمعية والشعبوية، بفعل الإنكفاء على الذات الممتد لقرون، برغم أن هذا الإنكفاء أحد أهم اليات الحفاظ على الهوية الدينية وربما القومية ايضاً، فى مراحل الضعف التى تلت الانقطاعات المعرفية التى جازتها الكنيسة والأقباط، بعد أن تحولت من كنيسة قائدة وفاعلة الى كنيسة أقلية، وصار خطابها يقتات على النذر اليسير الذى بقى فى حوزتها وهى تنتقل من اليونانية الى القبطية بعد زلزال خلقيدونية (القرن السادس) والانتقال القسرى من القبطية الى العربية فى القرن الحادى عشر، وتحوله فى الأخير إلى خطاب دفاعى ثالوثى توحيدى، بعد أن كان خطاباً بنائيا كرستولوجياً، وتبنى توجهاً تأملياً يتحاشى الإصطدام بالثقافة السائدة.

وعندما لاحت بوادر الاستفاقة والخروج من نفق الإنقطاع الممتد، مع بدايات القرن التاسع عشر، فى سياق عام شهد حراكاً اشمل فى ردة فعل للحملة الفرنسية وقدوم محمد على، والصدمة الحضارية وقتها، ثم استنفار الأجسام المضادة فى الجسد القبطى لمواجهة الإرساليات التى نفذت اليه فى اعطاف الحملة الفرنسية والإحتلال البريطانى، وتمدد الذراع الأمريكى الوريث القادم لموازين القوى الجديدة مع الحرب العالمية الثانية وبعدها، لم يكن الخطاب الدينى القبطى الأرثوذكسى يملك أدوات بنائية كافية ليشكل قوة تعيد ترتيب الذهنية القبطية تتواصل مع الجذور من جانب ومع متطلبات تلك المرحلة من جانب أخر، فغالبية تراثه ولاهوته كان محتجزاً خلف لغات انقطع اللسان القبطى عنها لقرون. منذ اللحظة التى قرر فيها البابا غبريال بن تريك (1131 ـ 1145م.) تعريب الصلوات والقراءات الكنسية والطقوس القبطية.

لكن البدايات كانت تحمل معطيات الخروج مع قدوم البابا كيرلس الرابع (1853 ـ 1861م.) الذى انتبه لأهمية التعليم وانجز الكثير رغم قصر مدة ولايته، فى انشاء المدارس العامة واستقدام اكبر مطبعة بعد مطبعة محمد على الأميرية، وفتح الباب لتعليم البنات، وافتتح مدرسة للتعليم الصناعى، ويستكمل البابا كيرلس الخامس (1874 ـ 1927م.) المسيرة، شهد فيها ودعم ثورتى عرايى و 1919، وأطلق منظومة "مدارس الأحد" لتعليم النشء والشباب امور الدين، ودعم الكلية الإكليريكية لوجستياً وفكريا وعهد بادارتها لمؤسس مدارس الأحد "حبيب جرجس"، ليشهد الخطاب الدينى نقلة نوعية، من رافدين، مدارس الأحد والإكليريكية، وإن بقيت ندرة المراجع الارثوذكسية، المعربة، واحدة من معضلات هذا الخطاب حينها.

ما كاد القرن العشرين ينتصف حتى لاحت بوادر ثمار الجهود السابقة، عبر من تتلمذوا على حبيب جرجس وخريجى مدارس البابوين كيرلس الرابع الخامس، وقد تخرجوا لتوهم فى الجامعات المصرية، طيف منهم ذهب الى المصادر التى ترجمت يونانية الآباء الى لغات حية، بينما عكف طيف آخر على التعريب عن اليونانية مباشرة، ليشهد الخطاب القبطى الارثوذكسى نقلة نوعية فارقة، وفى اعطافها مواجهة لم ترق وقتها للصدام بين التوجهين، ويشهد الخطاب المؤسسى طفرة بقدوم أحد ابرز شباب ذاك الجيل إلى منصة التعليم ثم الى الكرسى البطريركى، الأنبا شنودة، اسقفاً للتعليم (1962 ـ 1972) ثم بابا للكنيسة (1972 ـ 2012)، ويشتبك مع الشأن العام، ويقدم طرحاً جديداً يقترب به من الشارع بلغة معاصرة تخلت عن الاشكال التقليدية للخطاب المفارقة للعصر والمحتشدة بمفردات الخطابة التى يصعب للمتلقى استيعابها، كانت لغته أقرب الى لغة الصحافة، فحقق انتشاراً سريعاً وأسس لمدرسة السهل الممتنع. وكان ممثلاً للطيف الذى تشكل ذهنه وتتلمذ على الترجمات بلغات وسيطة.

فيما كان الأب متى المسكين يقيم على الضفة الأخرى التى جمعت بين النسك الرهبانى التقليدى والتأسيس لتوجه التعريب المباشر عن اليونانية القديمة مدعومة بترجمات باللغات الحية، وقد قطع فيها شوطاً كبيراً خلف وراءه العشرات من الكتب والمراجع الأرثوذكسية التى قام بتأليفها، وبالتوازى كان الدكتور نصحى عبد الشهيد يؤسس لعمل اكاديمى عبر مركز دراسات الآباء فى تواصل مباشر مع منابع ومصادر يونانية بتوسط اسفف ورئيس دير سانت كاترين بسيناء، فى مطلع ستينيات القرن المنصرم.

ربما تكمن ازمة الخطاب القبطى الأرثوذكسى اليوم في تصاعد المواجهات بين المدرستين، والتى شهدت السنوات الأخيرة لكلا الرمزين بعض منها، والتى تفاقمت بين المريدين لهما بعد رحيلهما.

الأمر بات بحاجة ملحة لإعادة هيكلة آليات التعليم المؤسسية الرسمية بالكنيسة على اسس موضوعية اكاديمية، وفى مقدمتها منظومة الكليات اللاهوتية التى تمد الكنيسة بالقاعدة العريضة من المعلمين (الكهنة والخدام) والمنظومة الديرية التى تمد الكنيسة بالصف الأول من قادتها (الاساقفة)، لوضع اسس موضوعية للخطاب الدينى القبطى الأرثوذكسى يجمع بين الأصالة والمعاصرة ومواجهة تحديات الانتقال من المجتمع الأبوى الى مجتمع ما بعد الثورة الرقمية، والذى سيطر على ذهنية الأجيال الجديدة وقفز بها فى فضاءات المعلومات وكسر قيود الرقابة والسيطرة والتوجيه الرسمى والمؤسسى، ويختلط فيه الغث والثمين، والصحيح والمدسوس.
نقلا عن الأهرام