فى مثل هذا اليوم 23 يوليو 

سامح جميل

عاش مهموما بالفقراء، وسخَّر ريشته للتعبير عن آلامهم. وكانت لوحته «الكورس الشعبي» أو «الجوع»التي شارك بها في أول معرض له صرخته النابعة من إحساسه بآلام الناس في حياتهم اليومية.

 
ـ ولد الجزار 1925 بحي القباري الشعبي في الإسكندرية، بالقرب من الميناء، وتفتح وعيه علي العمال والشيالين في غدوهم ورواحهم علي هامش الحياة، وفي حي السيدة زينب بعد انتقاله إلي القاهرة، تأكد أن لا اختلاف بين معاناة هنا ومكابدات هناك، حتي امتلأ وجدانه بهم وتسابقوا إلي ألوانه، فازدحمت لوحاته بملامحهم، وتناثرت فيها رموزهم اللافتة، وأحزانهم لدرجة أقلقت النظام الملكي، حين قاسم أستاذه «حسين أحمد أمين» (1948) معرضا نظمته «جماعة الفن المعاصر» التي شارك بتأسيسها مع آخرين، وعرض لوحته « الجوع» أو « الكورس الشعبي»، وكتب جملته الشهيرة « هؤلاء هم رعاياك يا مولاي»، وانقلبت الدنيا، واعتقل شهرا هو وأستاذه، وصودرت اللوحة، وأُلغي المعرض، وكانا أول تشكيلين يُعتقلان بسبب لوحة، وتدخل الفنانان الكبيران «محمد ناجي»و«محمود سعيد» الذي تربطه مصاهرة بالملك فاروق، وكانا من أشهر فناني عصرهما، فأُفرج عنهما بعد أخذ تعهد علي الجزار بعدم تكرار فِعلته، والعجيب أن اللوحة الأصلية اختفت ولم يعرف مصيرها حتي الآن، وأعاد الجزار رسمها سنة 1951 واقتناها متحف الفن المصري الحديث بعد ثورة يوليو.
 
ــ واللوحة تضم مجموعة رجال ونساء وأطفال يقفون حفاة صفا واحدا، ويرتدون ملابس بالية، وإحدي النساء مُنقَّبة، وأخري عارية، والثالثة شعرها أشعث، والرجال بملابس نسائية دلالة علي هوانهم، وأمامهم جميعا أطباق فارغة، ينتظرون طعاما لا يأتي، وعلي وجوههم بؤس وحيرة، في مشهد إجمالي يعكس واقع أغلبية المصريين آنذاك، في إسقاط سياسي واضح علي فساد الحكم، ويظهر شجاعة «عبد الهادي الجزار» في مواجهة الظلم، وكان لا يزال وقتها شابا صغيرا.
 
ـــ كانت حياته القصيرة (مارس 1925 إلي مارس 1966) حافلة بالإبداع والدراسة والنشاط، فقد درس الطب لعدة سنوات، ثم تركه ليدرس الفن في مدرسة الفنون الجميلة، وفي عدة بعثات إلي إيطاليا، ودرس الآثار الفرعونية بمعهد الآثار، ثم درس الهندسة، بجانب حصوله علي أستاذية في الفنون من أكاديمية روما، وأجاد اللغات الإنجليزية، والإيطالية والفرنسية والألمانية ودرس الهيروغليفية، وكتب الشعر والزجل، وقصص الأطفال،وله قصتان قصيرتان هما «دكان الحلاق»، و«خروج الروح»، ودرس الموسيقي العربية علي يد الموسيقار عبدالمنعم عرفة، وكان يعزف العود، وله أبحاث في الفنون الشعبية، وكتب كثيرا لمجلة البريد الإسلامي، وشارك ببرامج فنية في مجلة «الصوت العربي»، ومجلة هيئة الإذاعة العربية براديو روما، واهتم بالقراءة في التكنولوجيا والخيال العلمي، وحافظ علي تلاوة القرآن الكريم وله بعض تسجيلات بصوته.
 
ــ وبالرغم من شغفه بالأجواء الشعبية كالموالد والزار وقراءة الكف وعمل الأحجبة والأعمال لم يقع في فخ نقل الموتيفات، ولم يستسلم لحالة الانبهار بالعجائبيات الشعبية، لسبب بسيط أنه كان مسكونا بسحرها من صغره، ولا يعادي معتقدات البسطاء، وربما كانت نشأته المبكرة في حي القباري سبب ذلك الالتباس بين اللاوعي والمعرفة في حياته وأعماله، حيث تفتحت عيناه علي أشباح يكدّون بدأب لكنهم لا يبارحون حافة الحياة، بجانب معارفه الدينية الأولي التي تلقاها من والده الأزهري، وامتد الخط إلي حي السيدة زينب الذي قرَّبه أكثر للبسطاء، وعالمهم الغني بالتفاصيل الشعبية، ما مثَّل له ذخيرة إضافية أثرت أعماله بالرموز، والألوان الزاهية، وباتت الوجوه لديه حالات نفسية أكثر منها أشخاصا، كما في لوحة» الماضي والحاضر والمستقبل»ـــ توأم لوحة «الجوع»ـــ التي تنبأ فيها بثورة يوليو قبل قيامها بعام كامل،والماضي فيها يبدو في الخلفية أسوار سجن يطل منها سجين علي جنازة، وامرأة تمسك طفلا بيدها، ويمثلون ثلاثتهم حياة محاصرة تلتحق بالحاضر، والحاضر وجه واضح به قوة وإصرار وشرود نحو ماضِ كريه، وتأمل لغد باسم، ويتجلي الحاضر في أحجبة معلقة علي صدره وأقراط مدلاة من أذن، والمفتاح رمز المستقبل أمام الحاضر، ليوحي بغموض المستقبل، وهي تفاصيل تجسد رؤية الجزار للمجتمع المصري قبل ثورة يوليو.
 
ــ وموهبة الجزار عرفت طريقها وسط أفكار وأساليب جادة وحيوية حول أهمية الفن الشعبي وامكانية استخدام مفرداته في التشكيل، وكان «راغب عياد» أول من استلفت الأنظار إلي جماليات حياة البسطاء ووظفها في أعماله، وأكد «محمدناجي» أهمية التفاعل مع التراث الفني، واستلهم «محمود سعيد» روح مصر في لوحاته، واستن لنفسه أسلوبا خاصا، يمكن لأي مهتم ملاحظة تشابهه مع أعمال الجزار، وربما هذا ما دفع محمود سعيد في عز مجده لاقتناء لوحة «أدهم» للجزار سنة 1951لما توحي به من خصوصية مصرية.
 
ــ وأعمال عبد الهادي الجزار الأولي في الأربعينيات والخمسينيات مثل لوحات «رح زليخة»، و»المجنون الأخضر»و»تحضير الأرواح» و» دنيا المحبة»، و»شوَّاف الطالع»، كانت إضافة مميزة إلي التشكيل المصري، وتجليات لروح حقيقية، وكشف لجوانب من أساطيرنا الشعبية، كما يظهر في لوحته السلام حيث الألوان، والزحام، وشخص له قرون، ومسخ من حمار وسمكة في بطنها طفل، وساعة تخرج منها خيوط، وعقربها يوشك علي اختراق إطارها، وثعبان، ورموز هيروغليفية، ومفتاح برأس آدمية، وكلها موتيفات شعبية ضمَّتها دائرة واحدة، والدائرة في الحياة الشعبية ربما تعني طبلية الأكل، أو التحلق حول الحكاء ليلا، أو الالتفاف حول المُغنِّي.
 
ــ واهتمامه بالمفردات الشعبية كان حيلة بديعة لترميز موضوعاته،كما يظهر في أغلب لوحاته التي تتطلب تأملا للوصول إلي فكرته، وربما كان هذا سبب وصف البعض أعماله بالسريالية.
 
ــ وفي أواخر عمره القصير، الغني بالإبداع والانتاج والتنوع، أرهف شعوره بخطورة مرضه حِسَّه الفني، وأضفي علي أعماله طابعا مأساويا، وأكسبها شفافية، وصبغها بحزن باد، تلاقي في أعماله مع عناصر شعبية روحانية، في محاولة منه لاستكناه غموض ما بعد الموت، ومحاولة للثورة علي فكرة الموت ذاته كما بدا في لوحتي»الماكينات»و»عصرالعلم»، لكنه تمسك حتي اللحظة الأخيرة بهويته التي غلبت عليها الروح الشعبية.!!