مفيد فوزي
استيقظت على زمن الأمر بالنظرة، وكلمة الأب هى العليا، وحنان الأم يطوقنى، وبساطة الحياة تغلفنى، والاتفاق الشفوى له قوة العقد، والبنت تتكحل بالحياة والخفر، ولا نعرف القبطى من المسلم فالكل مصرى له رب واحد يركع له ويصلى، ويشرب من نيل واحد وتجفف ملابسه شمس واحدة.

■ ■ ■

استيقظت على زمن يحتفى بالحرف ويحترم الكلمة. زمن فيه الكتاب نبع المعرفة والقراءة رياضة العقول. زمن كانت المكتبة تحتل فيه ركنًا مثل البيانو، زمن كانت فيه القصيدة تنشر فى الصفحة الأولى من الصحف، زمن كانت الندوات الفكرية هى أشهى السهرات والمناقشات الثقافية تشغل البال، زمن كانت فيه أم كلثوم تشدو، وتوفيق الحكيم يكتب للمسرح، وجمال السجينى ينحت تمثالًا، ود. سيد عويس يحلل ظواهر المجتمع، والعقاد يشتم أنيس منصور، فيطلق عليه أنيس منصور اسم عباس محمود العضاض!.

زمن كان الحوار يدور بين أحمد بهاء الدين ومحمود أمين العالم ود. مصطفى محمود حول معنى الحب، زمن كان محمد التابعى يكتب فى روزاليوسف ومحمد زكى عبدالقادر يترأس تحرير مجلة الفصول، وسلامة موسى يمد للشباب فكره وينصحهم بالاتجاه إلى الشمال، إلى أوروبا.

■ ■ ■

عشت ذلك الزمان الذى يكتب فيه سعد وهبة السبنسة، فيرد ألفريد فرج بـ«على جناح التبريزى وتابعه قفه»، عشت زمان المنافسات بين فاتن حمامة وماجدة ونادية لطفى وسعاد حسنى ونبيلة عبيد ونادية الجندى وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وحسن الإمام وحسين كمال ورشدى أباظة وأحمد مظهر ووردة وفايزة أحمد. عشت الأغنية الوطنية بين عبدالحليم وكمال الطويل وصلاح جاهين، وكانت «واجهة نظام»، عشت زمان الشعر، يوم كتب صلاح عبدالصبور، ونافسه على مقعده أحمد عبدالمعطى حجازى، بينما كان صوت عبدالرحمن الشرقاوى يجلجل «وبعض الكلمات قبور»،

... وجاء نزار قبانى مدافعًا عن المرأة نصف قرن وعبَّر عن عواطفها الجياشة لرجل. عشت الزمان الذى كان النقد فنًا يسعى وراء جماليات العمل الفنى، كان عبدالقادر القط يسلخ غير الموهوبين، وإبراهيم الوردانى يطاردهم بصواريخه، وجليل البندارى عنده حكاوى من كواليس النجوم ما يملأ ليالى بأكملها، وتلميذ محمد مندور د. فوزى فهمى يحتمى بعباءة مندور من القبح ممتطيًا حصان الجمال بأعمال مسرحية تزهو فيها اللغة وتتغندر.

■ ■ ■

عشت زمانًا كانت فيه الفلسفة تتلألأ على جبين الفكر، وفى الساحة زكى نجيب محمود وأحمد فؤاد الأهوانى وفؤاد زكريا وعثمان أمين، عشت زمان شوقى وهو يصب لعبدالوهاب كوؤس الشعر ليغنيه. وأحمد رامى يعزف على ربابة أم كلثوم، ونجاة تدندن خواطر كمال الطويل، وبليغ حمدى وهو ينصهر بصوت وردة، ومحمد سلطان يستدعى سلطنة فايزة أحمد، أيام كان لمذيع الراديو هذه الطلة فى جلال معوض وفهمى عمر وعباس أحمد والمأمون أبوشوشة وفاروق شوشة وفاروق خورشيد وأحمد فراج وسميرة الكيلانى وصلاح زكى، أيام كانت شاشة التليفزيون زائرة جديدة فى حياتنا بسلوى حجازى وليلى رستم وسعيد عيادة ونادية كمال وحمدى السبروت وجميل المغازى ومحمد سالم وحمدى قنديل وسعد لبيب وطارق حبيب ومنى جبر.

■ ■ ■

عشت زمان الضظوى وأبوتريكة والخطيب وفاروق جعفر والشاذلى ويكن وأحمد حسن وحسام حسن وحمادة إمام وخالد الغندور وحسن شحاتة وشوبير ومروان كنفانى وصالح سليم وشحتة وأبوجريشة وبركات، يوم كانت الكرة متعة الحريفة ولم تتحول إلى دول وأحزاب، يوم لم يدخل الكرة عالم البيزنس والإعلانات، كان محمد لطيف كروان المعلقين، والجوهرى مدرب المدربين، والمشجعون بلا ألتراس!.

■ ■ ■

عشت زمانًا كانت تطرح فيه أسئلة جريئة: لماذا أنا ملحد؟ هل للبعث مستقبل؟ لمن يغفر صدام؟ من يعرقل الطرق؟ ما مستقبل روسيا بعد الانهيار؟ عن أى لغة تتحدثون؟ ماذا جرى للمصريين؟ كانت الحرية حارسًا على العقول. لم تكن هناك ممنوعات أو مناطق شائكة أو طرق ملغمة. كان العقل مفتوحًا على كل التيارات والموجات دون اتهامات أو شبهات!.

■ ■ ■

عشت ذلك الزمن الذى تعرَّت فيه الكلمة ولم يسترها أحد، وعشت غروب الكتاب ووفاة المكتبات، عشت ذلك الزمن الذى يسمونه جوجل نهر ونبع المعارف السهلة بضغطة إصبع، وصارت الحياة «واى فاى» ونت وتويتر وانستجرام وفيس بوك نصفه شتائم وشائعات تنخر فى العظام!.

عشت الزمان الذى تسطح فيه الفكر، فلا عاد يوسف إدريس يقول فكر الفقر أو فقر الفكر، ولا عاد مصطفى محمود يروى تجربته من الإلحاد إلى الإيمان، ولا ثروت أباظة يقول «شىء من الخوف»، ولا عاد نجيب محفوظ يبحر فى «حارتنا»، ولا تنافس بين ريشة بيكار وريشة صلاح طاهر، وأطل الكتاب الإلكترونى على استحياء ودخل صناعة النشر مغامرون، وذهب عصر بروفات الطرب وصار مذيعو التوك شو يملأون الليالى بثرثرة تضمن بقاءهم على الشاشات!.

■ ■ ■

وأشعر فى قلب هذا الزمان بغربة لا أخفيها ولا أجملها، أشعر أنى محظوظ لأنى عشت زمن العمالقة، وتحاورت معهم، والآخرون سمعوا فقط عنهم. أشعر أنى مازلت محتفظًا بقيم الكرامة والكبرياء يملؤنى الإيمان أن «تدابير الله هى الحاكمة».

■ ■ ■

كم تغير الزمن؟!.
نقلا عن المصرى اليوم