بقلم:  د. أحمد الخميسي 

 
في 24 أكتوبر الحالي حلت الذكرى الرابعة والثلاثون لرحيل الشاعر نجيب سرور الذي أثار رغم حياته القصيرة ( 1932-1987) عاصفة في سماء الثقافة المصرية بوجوده وإبداعه. وقد تعرفت إلي نجيب في قمة تألقه عام 1966، ثم تابعت مشاهد من انهياره عام 1972 في بعض مقاهي القاهرة التي كان يملأها صخبا وضحكا ودموعا. وعندما أتذكر نجيب سرور يخطر لي أن اندلاع الموهبة يكون أحيانا أكبر من احتمال الفنان. بدأ نجيب مسيرته الأدبية مبكرا عام 1957 بنشر قصائده في مجلة الآداب البيروتية، وهو بذلك رفيق رحلة تجديد الشعر التي قام بها صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي،وبينما كتب الاثنان بالفصحى فقط، راوح نجيب بين الفصحي والعامية. لكنه سافر إلي الاتحاد السوفيتي لدراسة الإخراج المسرحي مع أول بعثة طلابية أرسلها عبد الناصر إلي هناك. وحسب شهادة د. أبو بكر يوسف الذي ربطته بالشاعرعلاقة صداقة عميقة فإن نجيب خلال سنوات الدراسة لم يكن يكتب أكثر من قصيدتين أو ثلاثا في العام. وقد لاحظ نجيب – مثل كل فنان صادق – المظاهر السلبية التي طوقت التجربة الاشتراكية من الرشوة والبيروقراطية وسيادة النخبة الحزبية اقتصاديا وسياسيا، فصدم في جزء من أحلامه ، وهو ابن الريف المصري، القادم من قرية أخطاب الفقيرة بالدقهلية بأمل أن يعم العالم عدل ومساواة.

وعلاوة على ماسبق تعرض نجيب للضرب في قسم شرطة سوفيتي مما أفقده إيمانه بالنموذج الاشتراكي، بل وبإمكانية أن ترى الانسانية فجر العدل الحقيقي، وسرعان ما اضطربت أحواله في الغربة بعد أن نادى في مؤتمر طلابي بإطلاق سراح الشيوعيين المصريين من المعتقلات،  فتم فصله من البعثة الدراسة وسحب جواز سفره. هكذا شد نجيب رحاله إلي المجر عام 1963، وعاد بعد عام إلي مصر. العجيب أن كل أبواب العمل الأدبي والفني في مصر فتحت له أبوابها على مصراعيها فعاش نجما متألقا نحو أربعة عشر عاما متصلة ممثلا ومخرجا وكاتبا وصحفيا تكاد لاتخلو جريدة من أخباره وصوره .

بعد رجوعه بسنة واحدة وتحديدا في عام 1965 قدم أولى أعماله وأفضلها " ياسين وبهية " من إخراج كرم مطاوع. وعندما  ُعرض العمل على  مسرح الجيب في نوفمبر 1964 وقع النقاد في "حيرة" على حد شهادة د. أمين العيوطي، فقدر البعض أنه قصيدة شعرية طويلة وقدر آخرون أنه مسرحية، واعتبره د. العيوطي محاولة للمزج بين المسرح والرواية. ولم ينتبه أحد إلي أن نجيب كان ينقل شكل " الرواية الشعرية" إلي المصرية لأول مرة متأثرا بأمير الشعراء الروس الكسندر بوشكين وروايته الشعرية " يفجيني أونيجين" (1831). حتى أن نجيب كتب عمله في لوحات متتالية وقدم لها بمفتتح " برولوج " كما عند بوشكين.

ولم يكن المسرح الشعري العربي قد عرف بعد " الرواية الشعرية " التي قدمها نجيب في ياسين وبهية.

وأعلن نجيب أن رائعته ياسين وبهية جزء أول من ثلاثية تضم" آه ياليل ياقمر" 1966، و"قولوا لعين الشمس" 1967. وتوالت بعد ذلك أعمال نجيب المسرحية لكنها كانت كضوء النجوم التي تخبو بالتدريج. في سنوات التألق كان نجيب يصعد إلي القمة بنفس السرعة وفي نفس الوقت الذي يهبط فيه إلي القاع. وبينما كانت أخبار نجاحه الفني تملأ الصحف كانت أخبار تدهوره تنتشر بنفس القدر. ولم يكن من علامة على التدهور أشد من سلسلة قصائده الشهيرة"أميات " التي هجا فيها بعنف زوجته السابقة الممثلة " س. م"، التي كانت علامة على الانهيار أكثر منها علامة على الإبداع.

عام 1966 رأيت الشاعر الذي كان ممتلئا بالثقة والمرح ، وفيما بعد كنت أرى في مقهى " الاكسليسور" وغيره إنسانا يترك انطباعا قاسيا أنه يتمنى لو طعن نفسه أمامك بخنجر. بدءا من عام 1970 أخذ نجيب يغرق مأساته يوميا في الخمر، مستنفدا طاقته في اتهام العالم والبشر بكل شيء. وكنت ترى أمامك التناقض المدمر حين يكون الشعر أقوى من الشاعر، والخيل أشد من الفارس.

من ناحية تكالبت على نجيب حساسيته ومخاوفه وهواجسه فحاصرته، وكنت إذا رأيته في السنوات الأخيرة تتذكر العبارة القائلة بأن في وسعك أن تنقذ إنسانا من السجن لكنك لا تستطيع أن تنقذه من نفسه! من ناحية أخرى كان افتقاد نجيب للإيمان بأي شيء بناء ومبشر يلطم موهبته ويخلخلها من جذورها. هكذا برز نجيب سررو بنظرته العدمية وتشاؤمه ويأسه ليصبح "بطلا من هذا الزمان" يحمل بين جوانحه ثورة بلا أمل ومسيرة بلا طريق. وكان نموذج الشاعر الفارس المرير اليائس ، الجميل قلبا وشكلا، نموذجا جديدا في الحياة الثقافية فأصبح شعارا للكثيرمن الشباب الذين لم يصادفوا أملا في الواقع. يحضرني نجيب سرور في ذكرى رحيله فأتذكره مع كل من عرفه بحب وإعزاز من دون أن تفارقني فكرة أن الاستسلام للمخاوف أحيانا يكون أسهل من مواجهتها. في كل الأحوال بقيت لنا كلماته وقصائده . 
 
Ahmad_alkhamisi@yahoo.com