بقلم / عزت بولس
"عيش..حرية..عدالة اجتماعية" هي شعار ردده الشباب إبان ثورة 25 يناير، وكان مقصودهم تحقيق جملة من المطالب الشرعية لأي فرد داخل مجتمع متطور وأدمي. فالعيش كمفهوم  بمعناه الكبير يمنح الفرد الأساسيات بهرم احتياجاته الإنسانية ليتطور بعدها لفهم الحرية، بما تشمله من مساحة قبول وفهم للمجتمع والإنسانية ككل، ومن ثم الارتقاء لتحقيق قيمة العدل بكافة مستوياته بدءًا من تساوى الفرص للجميع ،مرورًا بحق الدولة على المواطن، نهاية بالعدل الاجتماعي واستقرار المواطنين جميعًا بغض النظر عن أموالهم على حد إنساني من حق العلاج الصحي والتعليم.

لكن ورغم كون شعار ثورة يناير براق وسليم ومقبول عقليًا ومنطقيًا، إلا أن مُطلقيه من الشباب لم يدركوا ما عمل عليه الرؤساء السابقين لمصر بحكوماتهم وأنظمتهم وكافة أدوات تأثيرهم في المجتمع من تنمية " التدين الظاهري" ومد الشعب المصري بكافة فئاته بشحنات دينية مغلوطة،وقد اعتقدت خاطئة كل تلك الأنظمة منذ 52 وحتى غير المأسوف عليه محمد مرسي، أن تغييب العقل المصري عبر شحنات دينية غير سوية وغير سليمة سيحميها من وجود منافسين سياسيين يسعوا للوصول لحكم مصر – نوع من التأمين لمجموعة سياسية معينه لتحكم أبدًا – ولكن الواقع أكد للجميع أن قتل المنافسين لا يجعل سوى المجرمين قادة لقطعان مغيبة.

بدأت الشحنات الدينية الغير سوية في البث داخل العقل المصري منذ العهد الناصري، عندما قرر الراحل عبد الناصر أن يُغير مسار الأزهر من مكان ديني وسطي، إلى جامعة شاملة تمارس تمييزًا فجًا وترسخ فكرة أن الدين قبل الوطن، حيث لا يدرس بها سوى المسلمين فقط من كافة أنحاء العالم لكن محظور على المصري من أي دين غير الإسلام أن يتعلم بها أو من خلالها..ليأتى العهد الساداتي ويروى البذرة الناصرية للتغييب الديني الغير سليم، فمرة يدعم أشد الجماعات تطرفًا ليحقق بها نجاحات سياسية محدودة تبدو جيدة على المدى القصير جدًا ، لكنها واقعيًا دعمت أسس الفشل الفكري والإرهاب المولود من تفسيرات جاهلية صحراوية.

أنتهي العصر الساداتي بمشهد لن ينساه العالم، مشهد درامي يؤكد صحة مقولة " الجزاء دومًا يكون من جنس العمل" وقتل الرئيس المسلم للدولة المسلمة التي أرادها، لتغلق صفحة وتبدأ أخري مع العهد المباركي، حيث المنح للزرع الأسود أن يأكله المصريين يوميًا ، ومُنحت الإخوان المسلمين شرعية بث السم في العقل المصري مقابل صفقة حزينة مع النظام المباركي مفداها الأتي " أنا هسبلك الشعب يا عم الإخواني.. وأنت تسبلي الحكم ومش عايز صداع ..سبنى أنا أركز مع الطبقة النضيفة اللى معاها فلوس أبنلهم مدن طرق .. ونجيب الرعاع يخدموهم ...الرعاع اللى أنا سبتهم ليكم تدوهم زيت سكر ووتنجحوا بالانتخابات بس بالنسبة اللى أنا أدهالكم وكله شرعي أهو  " .

منح مبارك الشارع للذئاب الإخوانية فلم يكتفوا ، ولكي يهرب من صداعهم وتهديداتهم المستمرة لقتل طموح ولده السياسي، منحهم الفضائيات والتلفزيون الرسمي عبر عناصر تًسمي " الخلايا النائمة" ظاهريًا ليسوا إخوان داخليًا يعشقون حسن البنا للنخاع ، وبالفعل تسابق الجميع بتقديم برامج التدين، والبحث في طرق جديدة ومبتكرة لجعل" الدين قال إيه ؟ نظام يحرك العقل الجمعي للمصريين، وهنا لا أقصد الدين بمعناه الروحي الذي نحتاجه جميعًا ، إنما  أقصد تدين الشكل وهشاشة الروح وقلة العقل .

دخل الجميع السباق في تقديم البرامج الدينية، وأصبحت الجرعة الدينية المغلوطة الغير سوية ، هي الطابع الغالب في جميع القنوات المصرية ، وبالطبع هذا التدين الشكلى لم يكن من نصيب المواطن المسلم فقط ، فالمسيحيين أقاموا قنواتهم و برامجهم الدينية.فجأة أصبحت نغمات المحمول إما لحن كنسي أو مقطوعة من وعظة احد الآباء في حال كون المتدين مسيحي أو جزء من صورة قرآنيه في حال كونه مسلم ، بل أصبح استعمال المصعد مصحوب بآيات حسب الديانة،و كذلك استقلال الطائرة بالشركة الوطنية المصرية للطيران، التي منع السادات في إحدى محاولات تقربه من" جماعات الشر" من تحريم تناول الخمور خلال رحلاتها، وإذا اضطررت إلى استقلال سيارة أجري بمصر " تاكسي"، فلا تجرؤ على مطالبة السائق بخفض صوت الراديو المُنضبط دومًا على إذاعات دينية ،بل وفوق كل هذا تبارت محلات السوبر ماركت، وبعض المطاعم في بث العظات الدينية بأعلى الأصوات بدون سبب واضح لمثل ذلك السلوك.أما  إذا راودتك فكرة" لماذا تتداخل أصوات الميكرفونات من المآذن المجاورة بعضها البعض لتذكير بمواعيد الصلاة؟ فيجب عليك كمسيحي أن تطرد الفكرة سريعا من فكرك، فقد يقرئها احد المتطرفين و يلصق" بك تهمة جاهزة اسمها "ازدراء أديان".

 أما عن شكل السيدات المصريات في شواطئنا الجميلة،وشوارعنا  الممتلئة بالقمامة فسوف أتجنب الحديث عنها، لسببين، الأول لحساسية القضية، والثاني لان ما أقصده  واضح للجميع ولسنا بحاجه للتفسير.

وبالرجوع مرة أخرى الى ثورة الشباب النبيلة في 25 يناير التي اغتصبت من الإسلاميين عنوة وعن غير حق، وأنقذها وعى المصري الحقيقي البسيط في 30 يونيو 2013 . ليبقي السؤال أين نحن الأن من مباديء 25 يناير و 30 يونيو ؟ هل أقمنا دولة حديثة مدنية؟ بما لا شك فيه أن مجهودات الرئيس السيسى في إقامة بنية أساسية قوية واضحة لا مجال لشك أو تشكيك في صحة جدوها بمستقبل مصر أقتصاديًا . فالرئيس السيسى يتحمل بشجاعة - وأنا هنا مش بطبل فليس لي استفادة من التطبيل)-  نتائج الإصلاحات  الاقتصادية التي  "خاف" جميع الرؤساء السابقين من عملها، ولكنها ضرورية لإصلاح المسار الاقتصادي المصري.

لكن ورغم كل تلك الجرأة الرائعة للرئيس السيسي، يبقى الإصلاح الأهم، وهو إصلاح الإنسان المصري الذي دُمرت ثقافته عبر سنوات بشكل ممنهج. وهنا نلاحظ تعثر واضح من الحكومة في الجرأة على القيام بأي خطوة نحو إصلاح العقلية المصرية، فمنذ أن طالب الرئيس بإصلاح الخطاب الديني والوضع تدهور إلى الأسؤا، وفى اعتقادي انه يوجد من يعمل بعمد فى عكس الاتجاه الذى يريده الرئيس. فظهرت اخر الإبداعات الحكومية بإقامة "أكشاك فتوى" في محطات المترو ووصف المسحيين ب" النجاسة المعنوية".

 في رأى انه ذا كان في رغبة حقيقة لإصلاح المفاهيم الدينية فيجب إغلاق جميع القنوات الدنية والبرامج الدنية دون استثناء والتركيز على برامج العلم والتاريخ والفكر وتنمية الإنسان والمفاهيم الإنسانية، غير ذلك لا أمل أتوقعه، طالما الدين ورجاله لهم تحكم خارج دور العبادة. الفكر يجب مواجهته بالفكر وليس بالمزايدة عبر الأديان، وقد "اكتوينا" من الإرهاب النابع من الفكر المغلوط المتطرف، ويبقى السؤال: هل ترغب الحكومة على أن تبعد أصحاب الآراء التعسفية الطائفية المتطرفة من نشر ثقافة الكراهية بين أبناء الوطن الواحد؟ الإجابة ستعلنها بوضوح الشهور القليلة القادمة.