محمود العلايلي
حدث فى ثمانينيات القرن الماضى أن بدأت صناعة وتجارة المياه المعدنية فى مصر على نطاق محلى، وهو ما أحدث ردة فعل اجتماعية مهمة، فقد أدرك المصريون فجأة أن للمياه ثمنًا! سواء فى الأوساط التى كانت قادرة على شرائها، أو الذين لم يهتموا بذلك، إما لعدم قدرتهم أو لعدم اقتناعهم بأن هناك فرقا بين ما يشترون من المتاجر وما يتناولونه من الصنبور. بعد أزمنة طويلة كان هذا البند غير وارد حسابه على الإطلاق سواء للشرب أو للطهى أو لأى أغراض أخرى.

والحدث المهم أيضا ما تلا ذلك فى تسعينيات نفس القرن بدخول خدمة التليفونات المحمولة، وانتشارها بشكل كبير فى مدة قصيرة، وخاصة بداية من نصف العشرية الأولى من الألفية بانتشار أجهزة المحمول الذكية بين كل الأوساط ومختلف الأعمار، وصار المستخدمون يحسبون جيدا كم من الدقائق يستهلكون فى مكالماتهم، وكم من جيجا بايتس الإنترنت، وأصبحت هناك سوق رائجة بين مقدمى الخدمة والمستخدمين على تقديم أفضل العروض وانتقاء أفضل الباقات، على الرغم من تحكم الدولة فى سعر الدقيقة لدى الشركات العاملة فى المجال.

قصدت بالفقرتين السابقتين أن أعرض لتغيير نمط تفكير المواطنين المصريين فى بعض ما يخص شؤون حياتهم، وضبط الاستهلاك بقدر ما تتحمله القدرة المالية، وذلك بمناسبة الشريحة الرابعة من رفع الدعم عن المواد البترولية التى أعلنت الأسبوع الماضى، والتى قوبلت بهجوم تقليدى منتظر، سواء من المواطنين الذين يشكون أصلا من أعباء الحياة، أو من السياسيين والمعلقين اليساريين الذين يرون أن هذا ضمن برنامج صندوق النقد الدولى للضغط على مصر وتركيعها، أو من بعض المتربصين الذين يعترضون على التوجهات الاقتصادية والسياسية بسبب أو بدون، أما القلة ممن خرجوا من عباءة العقود الشمولية وتخلصوا من أدبيات الاشتراكية وديماجوجيتها،

... فقد ناظروا المشهد بشكل كلى وأيقنوا أن السبيل للإصلاح الاقتصادى هو بعض هذه الإجراءات، بإزالة بعض الأعباء عن الموازنة العامة للدولة أو إعادة توجيهها إلى بنود أخرى مثل التعليم والصحة، وعلى الجانب الآخر يحاولون بشكل غير مباشر أن يوصلوا للجميع أن أى تحول اقتصادى له تبعات قاسية على المديين المتوسط والقريب، دون محاولة تجميل ذلك أو التقليل من آثاره المؤلمة.

ولكننا لكى نطلق على ما يجرى من قرارات إصلاحا اقتصاديا شاملا، وليس بالكاد إجراءات اقتصادية، يجب أن تكتمل دائرة تحرير الأسواق بشكل كامل حتى يشعر الجميع بالعدالة وبأن السعر المعروض لأى سلعة هو السعر العادل لها حتى ولو كان مرتفعا، جراء التنافس بين كل مقدمى أى سلعة أو خدمة.

فإذا أخذنا المواد البترولية كمثال، فقد وعدت الحكومة بتطبيق السعر العالمى للوقود تلقائيا بشكل ربع سنوى بداية من الربع الأخير من 2019 وهى خطوة مهمة جدا لدى المواطن أن يفهم بشكل عملى أن ما يشتريه ويستهلكه هو السعر الحقيقى للسلعة، وكما أنها قابلة للارتفاع فإنها أيضا قابلة للهبوط، كما يحدث فى سوق الذهب مثلا، حيث يشكو المواطن من سعر الذهب حين يرتفع ولكن لا يعزو هذا للدولة أو يحملها مسؤوليته، ولذلك فعلى الدولة مع تحريك الأسعار تبعا للسعر العالمى، أن تترك أيضا هامشا من حرية التسعير بنسبة معينة من سعر المواد البترولية، تحدده كل شركة على حدة لتحقيق عامل المنافسة بينها، لتقديم أفضل خدمة والوصول لأنسب سعر.

إن تحرير الاقتصاد ليس عملية اقتصادية فقط، ولكنها توليفة متكاملة من تغييرات اجتماعية وقانونية وأدبية، لتغيير الذهنية العامة، والوصول إلى شعورعام بثبات السوق بآليات حرة وعادلة بين أطرافها المختلفة.
نقلا عن المصرى اليوم