نبيل شرف الدين
لست بصدد الدفاع عن المسيحيين فلهم ربٌ أجدر مني من غيري بهذه المهمة ، لكني أكتب استنادًا لصفتين : الأولى إنسانية والأخرى وطنية ، فعلى الصعيد
الإنساني ما يزعمه السلفي المدعو أحمد سبيع باتهام ملايين البشر بالقذارة والروائح الكريهة ، وربط تلك الافتراءات بالإيمان المسيحي فهذه وفقًا لبنود «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» وكل قوانين دول العالم المتحضرة ناهيك عن المعايير التي تلتزم بها شتى المنظمات الحقوقية المحلية والدولية ، تُشكل

جريمة عنصرية وتمييزًا طائفيًا وتشويه سمعة من قبل «نظام روما الأساسي» لعام 2002 للمحكمة الجنائية الدولية عن الأفعال اللاإنسانية ذات الطابع المماثل لغيرها من الجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب في سياق نظام مؤسسي قائم على القمع والتحقير بصورة منهجية من قبل جماعة بعينها ضد مجموعات أخرى بدوافع عرقية أو طائفية أو غيرها ، ويتفاقم الأمر حين تغض السلطات المعنية في الدولة البصر عن تلك الممارسات ، بل ربما تتهاون مع مرتكبيها فلا تجري تحقيقات في تلك الممارسات التحريضية ونشر ثقافة التمييز الطائفي بين المواطنين.

أما في سياق المواطنة فإن اتهام شريحة كبرى من المواطنين تقدر بالملايين بمثل هذه الافتراءات التي لا تستند لأدلة ، فإنها تُمثّل جرائم تحريض وتشويه سمعة وازدراء أديان وغيرها من الانتهاكات القانونية الصريحة ، فضلاً عن بثّ روح الطائفية والتمييز والتحقير ونشر مشاعر الكراهية والفرز الطائفي بين المواطنين بما يُعرض السلام الاجتماعي لمخاطر لا تُحمد عُقباها على اللحمة الوطنية والعيش المشترك بسلام واحترام ، خاصة في ظل عدم المساءلة القانونية والملاحقة القضائية من قبل السلطات المعنية بحفظ النظام العام (L’ordre public) متمثلاً في الأمن العام الذي يعدّ أهم عناصر تحقيق النظام العام للدولة بالحرص على تطبيق القانون بصرامة ، وتوفير الحماية للأفراد والجماعات ، ومعاقبة الأشخاص الذين يُمارسون أيّة تصرّفات تؤدّي إلى التسبب بأذى غيرهم أو الإساءة لهم ، ولمحكمة النقض عدة أحكام بهذا السياق تؤكد في مجملها أن إجراءات التقاضى من النظام العام ، وجواز إثارتها من النيابة ومحكمة
النقض من تلقاء نفسها
أما العنصر الثاني هو السلم العام أو السكينة ومفادها القدرة على توفير بيئة هادئة بعيدة عن أيّ نوعٍ من الإزعاج الذي يؤثّر على الأفراد سواء كانوا مواطنين أو مقيمين ، وأخيرًا يأتي العنصر الثالث وهو الصحة العامة وهو ليس موضوع مناقشتنا في هذا المضمار.

نأتي للمواءمات السياسية والاجتماعية ، ففي ظل مناخ يسوده الاحتقان الطائفي ويتوغل فيه التعصب ، فليس من مصلحة السلطة الحاكمة ولا التعايش الاجتماعي ولا أي جهة معنية بمصالح الوطن ومكوناته أن يمر مثل هذا التحريض المُبتذل الرخيص مرور الكرام دون مساءلة وملاحقة قضائية ، وهنا يبرز دور مؤسسات المجتمع المدني ـ حال وجودها وفعالية دورها أصلاً ـ لتحريك دعوى قضائية ضد هذا الجيل الجديد من المتعصبين ودُعاة الكراهية ممن «يعطيك من طرف اللسان حلاوة ، ويروغ منك كما يروغ الثعلب» ، فقد تراجعت ـ نسبيًا ـ سطوة الجيل السابق من السلفيين الذين يستخدمون لغة خشنة تتسم بالفجاجة في معاداة مواطنين يعتنقون دينًا آخر غير الإسلام ، وتحديدًا المسيحيون ، بينما برز جيل يتسم بمظهر يبدو أكثر نعومة لكنها نعومة الأفاعي ، فهو يتبنى نفس الأفكار الطائفية التي رسخها آباؤه من الوهابيين والسلفيين بمختلف تنوعاتهم ومشاربهم ، فهم ليسو كيانًا واحدًا بالمناسبة بل عدة مجموعات تنتشر في

طول البلاد وعرضها بمسميات مختلفة ، لكن تجمعهم مظلة فكرية ومنظومة سلوكية ، وتختلف فقط أساليب نشر هذه الأفكار وتلك السلوكيات في وجدان ملايين الشباب الذي لم يجد حلاً لأزماته على أرض الواقع فاتجه لما يمكن تسميته «الدروشة العدوانية» ظنًا منه بأن هذا الطريق سيحمله للفوز بالدنيا والآخرة ، وتسهم المنظومة الإعلامية وشتى المنابر الرسمية والشعبية والحركية بنشر هذه المفاهيم على نطاق واسع ، بينما يبدو التسامح مع تلك الموجة السلفية الكاسحة واضحًا في سياق الاستخدام السياسي لتطويعهم من جهة ، واستخدامهم سياسيًا ضد منظمات فاشية إرهابية كالإخوان المسلمين ، على طريقة لا يفل الحديد سوى النار ، أو داوني بالتي كانت هي الداء ، وجولة واحدة في شوارع المحروسة أو المصالح الحكومية تكفي لرسم صورة بانورامية لهذا الفرز الطائفي وتراجع الهوية الوطنية الجامعة لصالح الهويات الفرعية رغم كل ما يُقال عن الوطنية على ألسنة المسئولين أو عبر وسائل الإعلام المحلية التي تحولت لمجرد أبواق دعائية بالغة الفجاجة والابتذال لدرجة تذكرنا بالعهد الناصري ، لكنها تفتقد للاحترافية والمشروع السياسي البديل.

وعن تجربتي الشخصية فالنظافة سلوك شخصي لا صلة له بالأديان ولا الأوطان ، ولعل الأجهزة المعنية بخدمات النظافة في مصر هي المتهم الأول بانتشار القاذورات وأكوام المخلفات حتى في أرقى أحياء كافة المدن والقرى المصرية ، وهذه أزمة مُزمنة منذ عقود وعهود ولم يتمكن أي نظام حاكم منذ العهد الملكي لحلها حتى الآن رغم اللغو الفارغ عن خطط وأنظمة وتجارب باءت جميعها بالفشل ، فالقاهرة إحدى أكثر عواصم العالم تلوثًا وقذارة ، وأعرف عبر دائرتي الاجتماعية شخصيات تتسم بالنظافة رغم تواضع مستواها الاجتماعي والاقتصادي ، وبغض النظر عن الدين الذي يعتنقه هذا الشخص أو ذاك ، لكن ربط القذارة والروائح الكريهة بالمسيحيين فهذا محض افتراء لا سند له على صعيد الإيمان أو الواقع المُعاش ، وهذه التهمة البغيضة الخبيثة من شأنها أن تُعمق الفرز الطائفي المتفشي أساسًا ، وتفاقم المرارات داخل نفوس شريحة عريضة من المجتمع ، ناهيك عن أن الذين يروجون لتلك المزاعم الكاذبة لا يتوقفون عند هذا الحد ، فقد راجعت قنواتهم بعناية وأجريت تحليل مضمون لما تبثه فوجدتها تنشر ثقافة الكراهية والتشكيك في معتقدات المسيحيين وتسفيه مقدساتهم دون رادع ، لهذا أدعو السلطات لاتخاذ موقف حازم تجاهها ، وأطالب الحقوقيين برفع دعاوى قضائية ضد الذين يروجون لها وينفقون عليها ويقفون خلفها ، وأناشد كل مصري مهموم بقضايا وطنه إبلاغ إدارة شركة جوجل لوقف وحظر تلك القنوات على خدمة يوتيوب .. فلا يمكن التسامح معها ولا أتفهم التعامل معها بمنطق الدروشة» من قبيل ترديد عبارات «فض المجالس» لأنها ليست الحل الأمثل.

والخلاصة فإن الاحتجاجات ذات السمات الطائفية في دول الشرق الأوسط تعبر عن فشل الأنظمة الحاكمة في القضاء على التهميش وعدم جدية التنمية ، وهو ما يطرح إشكالية إدارة المخاطر الاجتماعية وتعزيز حضور الدولة للتصدي لأزمة «المواطنة المنقوصة» مع قدرٍ لا يمكن الاستهانة بأهميته يتعلق بالتدخلات الإقليمية والدولية ، بما يؤثر على استقرار هذه الدول ووحدتها الإقليمية والتعايش بين مواطنيها ، ويُنذر بانفجارات اجتماعية مُحتملة لا أحد يعرف مساراتها.