مفيد فوزي
الحبيبة أمى
لم أجرؤ طوال السنين أن أعصى لك أمراً، كنت دائماً المطيعة دوماً حتى لو كان ذلك ضد إرادتى. فقد كان الاعتراض على شىء ما من قاموس قلة الأدب وأنا مازلت وفيّة لتعاليمك. وسبب الإفراط فى الواقع الصعب، كنت أهرب إلى الخيال وأحلق بجسارة. كنت أزف نفسى وسط أحلام افتراضية ثم يجىء صوتك فأفيق من هذيانى. كنت أغضب من زميلاتى فى الدراسة حين يشبهونك يا أمى بـ«علوية جميل» هذه الفنانة قاسية الملامح التى تحكم الحياة بشخطة وقلما ابتسمت. حتى أنت يا أمى لم أضبط لك ابتسامة. وأنا طفلة زرعت فى داخلى الحذر من الصبيان ومنعت أى مخلوق يقبلنى حتى أقرب الأقارب. وحين تكور صدرى واستقام عودى سمعت تحذيراً من قبلات الأقارب ومداعباتهم ومنعت أى يد أو أصابع تمتد إلىَّ. كرهت جسدى وأدركت أنه لعنة وعشت الحذر الدائم من الصبيان والشبان والمتزوجين حتى من الكهول! هل كنت على حق فى حذرك من الرجال؟ وهل الأذى عند أطراف أصابعهم. لقد عشت سنى مراهقتى خائفة ولما فاجأتنى الدورة ذات مساء، بكيت ولطمت وخيل إلىَّ أن حدثاً جللاً قد حدث ولم أسمع تمهيداً من أحد. وكنت أكره كلام البنات إذا تطرق إلى هذه الموضوعات. دون أن تدرى- يا أمى- جعلت منى صبياً بشعر طويل فأنا لا أعيش كأنثى ولم يحدث أن ذقت طعم الدلع ولا أعرفه بل إن ملابسى كانت أقرب إلى الصبيان منها إلى البنات، وكادت نبرة صوتى تكون خشنة. كنت أبكى حالى ولا أعرف لماذا هذه الدموع. كنت أرى فى أحلامى شاباً يضمنى إلى صدره فأشعر بقشعريرة ثم أصفعه لأنى رأيت عينيك ترقبان المشهد فى الحلم!!

الحبيبة أمى
كانت تربيتك خاطئة يا أمى. أقولها الآن بعد أن أعلنت دون أن تدرى شهادة وفاة أنوثتى. فأنا أقرب إلى «الاسترجال». ملابسى، تسريحة شعرى، صوتى، أسلوب تعاملى، حتى حدثت الكارثة يوم قلت لى يوماً إن أحد أقاربى الذى درس فى السربون قادم للزواج منى. قال إنه معجب بأخلاق «استقامة» وهذا بالمناسبة اسمى فى شهادة الميلاد، استقامة محمود الضو، لم تمهدى ابنتك لتجربة زواج بعد حذر طويل طويل من الرجال. وكيف سيحدث التطبيع المأمول مع الزوج الرجل؟ عندما صافحنى لأول مرة، ظلت أصابعه ممسكة بكف يدى فنزعتها بسرعة فاجأته! وعندما أراد أن يطوقنى بذراعه، تملصت منه مما جعله يحدق فى وجهى بدهشة. لقد تعلمت الصيدلة والدواء لكنى أجهل بمعادلات كيمياء الحياة نفسها. أنا فاشلة فى استقطاب رجل. فاشلة فى خلق مناخ ذهنى مشترك. فاشلة فى إقامة علاقة طبيعية مع رجل لأن الرجل كما رسمت صورته الذهنية «مغتصب». وكيف أنجح وأنا مشحونة منذ طفولتى بالخوف من الرجل والحذر منه؟!

الحبيبة أمى
فى مجتمعاتنا العربية «عوار» كبير فى التربية، فاهتمامنا بالسياسة طغى على اهتمامنا بالإنسان، مشاعره واهتماماته والعلاقة بين الرجل والمرأة متروكة للصدفة ولصديقات البنت وأصدقاء الرجل، لا تؤاخذينى يا أمى إذا قلت لك إن الآباء والأمهات أولى بالتربية. فإن تعاليمك الخطأ جعلت منى «مخلوقا» يتأرجح بين الأنثى والمذكر، حتى اسمى اخترته وكأنك أردت اسماً على مسمى! بالفعل كنت الاستقامة فى السلوك والمبادئ حتى القبلات الصديقة من زميلاتى فى الجامعة رفضتها والسبب تحذيراتك من علاقات البنات بالبنات! يا أمى لقد رفضت قبلة مختلسة من خريج السربون وعندما تساءل عن سبب عنفى معه، فشلت فى الإجابة، ولكن الإجابة الأمينة هى تربيتك الخطأ يا أمى! حين جاءت الليلة الموعودة التى تحلم بها كل بنت، حاول أن ينزع ملابسى بالقوة وهو مذهول ويردد «أنا جوزك يا استقامة» بكيت ولطمت فمزق ملابسى وكانت أظافرى الطويلة أسرع فى الدفاع عن نفسى وتأثر وجهه بالدماء حين كنت أدافع عن نفسى ضد بربرية رجل وهمجيته. أين أنت الآن يا أمى وأنا مع رجل هو زوجى وكلانا فى معركة. كدت أصرخ: أيها الأمهات اتركن بناتكن يعشن الحياة بنضج ذهنى وبسماحة رجل وليس بمعارك سببها الخوف والحذر والعقدة من الرجل.

الحبيبة أمى
أنا الآن «المطلقة استقامة». فهل لديك حل للطلاق من الليلة الأولى؟ هل أعيش حياتى معقدة من الرجال بسبب تربية خطأ؟ إنى أعيش نزيفاً روحياً وغير قادرة على الآهة الساكنة فى أعماقى. فشلت عاطفياً لأنه قال إنى رجل وليس لى قطرة من الأنوثة. دمرنى حين واجهنى بحقيقتى وهى أنى خائفة وحذرة ولست امرأة على الإطلاق. سامحينى يا أمى، أنت سبب عذابى، تربية خطأ، سامحينى إذا عاتبتك على هذه الصورة المشوهة، فلا أنا برجل، ولا أنا امرأة. أنا مخلوق ناقص كتب عليه أن يعيش الاستقامة حتى نالت منه وحطمته، أنا بقايا امرأة لا أعرف طعم الحب أو الجنس أو العاطفة. أنا تربية أمى!!
نقلا عن المصرى اليوم