لميس الحديدي
و"بهية" التي ناديت باسمها يوم إزاحة نظام الإخوان في الأصل اسم جدتي لوالدي الريفية شديدة المراس التي تعلمنا منها جميعا في أسرتنا الصلابة والقوة والتحمل.

تعرضت جدتي بهية لصدمات كثيرة في حياتها:
مات ابنها الأصغر وهو في مقتبل عمره في حادث أليم.

ثم مات زوجها- جدي- وهو في عنفوان قوته.

ثم فقدت ابنها الأكبر الأشهر حسني الحديدي فجأة.

فقدتهم جميعًا في حياتها، وكان حزن بهية كبيرًا، لكنها واجهت، وتحملت، واستكملت الطريق ومنها تعلمنا الصبر والقوة.

ومصر في ذاكرتي دائمًا تشبه جدتي بهية في تحمل الألم والصلابة والقوة والبساطة، وعندما كنا نُنشد في الجامعة أهازيج الشيخ إمام "مصر يامّا يا بهية، يامّو طرحة وجلابية، الزمن شاب وانت شابة هو رايح وانت جاية"، كنت دايما أرى صورتها بجلبابها وطرحتها السوداء، لم تبدلها حزنا على أولادها. لكن وجهها كان دائما بشوشًا مبتسمًا راضيًا.

لا أعرف لماذا تذكرت جدتي في هذه اللحظة بالذات، لحظه إعلان ٣ يوليو وإزاحة نظام الإخوان.

الصورة التي لم تفارقني وأنا على الهواء كانت صورتها (جدتي بهية الحديدي) فصرخت بأعلى صوتي في الاستديو محتفلة بانتصارنا: "الله أكبر، الله أكبر، ولا حد يقدر عليكِ يا مصر ولا حد يقدر عليكِ يا بهية".

تحل ذكرى ٣٠ يونيو وتداعي الذكريات، كتابتها تحتاج لصفحات أو ربما كتاب نوثق فيها الأحداث لجيل لن يعرف عنها شيئًا بعد سنوات.

الطريق إلى ٣٠ يونيو كان مليئًا بالأحداث، لكن صورًا بعينها تبقى راسخة لا تبرح مخيلتي.

الصورة الأولى يونيو ٢٠١٢:
عند إعلان انتخاب الراحل د. محمد مرسى رئيسا للبلاد، كانت كل التوقعات والتسريبات أن الفائز هو الفريق أحمد شفيق، وتأخر إعلان النتيجة لأيام، وسمعنا عن تدخلات للسفيرة الأمريكية (آن باترسون) وقتها- وأيا كانت الحقيقة التي سيكشف عنها التاريخ يوما ما- فقد أُعلن مرسي رئيسًا للبلاد.

أذكر جيدا يومها كنت أرتدي "جاكيت" أبيضَ، وكنت وزميلي خيري رمضان نتبادل تقديم الفترات الإخبارية المفتوحة لساعات طويله مع زميلنا مجدي الجلاد، وكانت المرة الأولى في حياتي التي لم أتمكن فيها من الظهور على الشاشة في موعدي المحدد.

اتصلت بخيري في الفاصل الإعلاني، وأبلغته أنني لا أستطيع الظهور لبعض الوقت كي أتمالك نفسي، واضطر خيري أن يستكمل الوقت دون ترتيب مسبق، لكنه كمذيع محترف يعرف كيفية التصرف في مثل هذه الأحوال .

نظر الجميع إليّ ماذا أنا فاعلة، أخرجتهم جميعًا، وأغلقت باب غرفتي الصغيرة في الاستديو، أطفأت الأنوار، وانهمرت في البكاء وحدي؛ فقد شعرت أن وطني قد سرق مني، كنت أعرف ماذا يعني حكم الإخوان المسلمين، قرأتهم، وقرأت تاريخهم، وعلمت حينها أن مصر التي أعرفها لن تعود.

هل كنت أتخيل أو أتوقع أنه بعد عام من تلك اللحظة الحزينة سينزل الملايين الشوارع مطالبين بتصحيح الخطأ ومنادين بسقوط نظام المرشد وأن الجيش سيستجيب لمطالبهم؟

بالتأكيد لا؛ فقد كان حكم الإخوان كابوسًا ظننت أننا لن نفيق منه أنا والمصريون جميعا لعقود من الزمن.

وتلك كانت الخطة أن يحكمونا ٥٠٠ سنة، وكان المجتمع الدولي كله يدعمهم وبقوة؛ فهم نموذج "الإسلام السياسي" الذي يريدونه أن يحكم المنطقة، ويستعيد المتطرفين من بلادهم.

عام كامل وأحداث متلاحقة، سأذكر هنا نهاياتها فقط؛ فالتفاصيل كثيرة ودقيقة ومتشابكة. تصاعدت الأحداث واحدًا تلو الآخر، من الإعلان الدستوري، وأحداث الاتحادية، وحصار المحكمة الدستورية، واعتصام وزارة الثقافة، وحصار مدينو الإنتاج، ومؤتمر دعم سوريا، ومحاوله عزل النائب العام، واجتماع سد النهضة حتى وصلنا إلى توزيع استمارات تمرد في المحافظات والدعوة لاحتشاد الناس في الشوارع، في نفس الوقت الذي بدأ فيه حشد الإخوان في ميدان رابعة العدوية، ثم ميدان النهضة.

كانت صورنا- نحن الإعلاميين- معلقة على مشانقهم، وكانت إحدى أهازيجهم الشهيرة، خلال حصار المحكمة الدستورية "يا مرسي ادينا إشارة نجيبلك لميس في شكارة".

وكان حصار المدينة الذي قام به حازم أبو إسماعيل وأتباعه يفتش كل سيارة تدخل أو تخرج من المدينة بحثا عنا، ووصل الأمر إلى تحطيم سيارات زملاء يعملون معنا.

بلاغات في النيابة لم تتوقف طوال تلك السنة، قضينا فيها ساعات طويلة في التحقيقات التي كانت تحفظ في النهاية. تهديدات مباشرة وغير مباشرة، ترغيب وترهيب بكل الصور، حتى وصل التهديد إلى درجة الإعلان عن عناوين منازلنا وأرقام تليفوناتنا على محطاتهم التلفزيونية وفي مقدمتها محطه ٢٥.

كنا في الأيام الأخيرة من يونيو ٢٠١٣، الدعوات لتظاهرات ٣٠ يونيو تتزايد، استقبلنا مجموعة تمرد على الهواء في مغامرة عظيمة، فما كنا نعرف ماذا سيحدث عقب ذلك، لكن الهدف كان واضحًا أمامنا جميعا لن يمكننا العيش تحت حكم الإخوان .

انتقل معظم زملائنا من الإعلاميين للإقامة في الفنادق خشية اعتقالهم أو التعرض لهم، وكنا- أنا وزوجي عمرو أديب- لا نزال في منزلنا. أرسلت ابني إلى الساحل مع إحدى صديقاتي، وبقينا نحن في منزلنا بالمنيل حينها. أذكر جيدا الحوار بيننا حيث عرض علي عمرو السفر خوفا علي وعلي ابننا، وأذكر إجابتي جيدا: "مش ح أتحرك مش ح ينفع وربنا يستر".

لا أعرف حقيقة من أين جاءتني تلك الشجاعة؛ فقد هجرني الخوف فعلًا، ربما بسبب يقين، ربما عشق لوطن أحسست، لأول مرة، أنني يمكن أن أسهم في إنقاذه. أو ربما كنت أردد لنفسي مقولة الأستاذ هيكل: "سيقعون في أخطائهم لا محالة".

ظهر الجمعة ٢٨ يونيو، خرج عمرو من المنزل، واتصل بي قائلًا: ٥ دقايق ح أعدي عليكِ، حضري حاجتك لازم نسيب البيت حالا، وجهزي لي البدل"!

وفهمت الرسالة، فقد وصل الخطر إلى أعلى مراحله، ما كان عمرو يقرر أن نتحرك من المنزل إلا أن يكون قد وصلته كل إشارات الخطر.

لم أكن أعرف ماذا يجب أن أحضر معي أو كم يومًا يمكن أن نبقى في المكان الآخر الذي لم أعرفه إلا في السيارة، تفاصيل ملابس التصوير كثيرة، فماذا أحضر معي؟

وهكذا جمعت حقيبة سفر كبيرة بها ملابس متنوعة: ملابس بيضاء وحمراء وسوداء، فما كنت أعرف كيف ستنتهي الأمور.

انتقلنا جميعا إلى فندق الموفينبيك الملحق بمدينة الإنتاج الإعلامي؛ فقد أمّن الجيش المكان وكانت تلك- مع البيانات اللاحقة- إشارات أمان مهمه أننا والجماهير لن نترك وحدنا لجماعة الإخوان كي تنقض علينا وأن الجيش "لن يظل صامتًا أمام انزلاق البلاد في صراع تصعب السيطرة عليه".

لم يكن يوم ٣٠ يونيو يومًا واحدًا، فقد كانت مخاوفنا أن ينزل الناس يومًا واحدًا، وينفض كل شيء، بينما لدى جمع الإخوان الطاقة والقدرة على الاستمرار. فكانت رسالتنا للناس واضحة: ليس يومًا واحدًا، تحملوا معنا حتى نصل لنهاية الطريق. وأبهرنا هذا الشعب الذي قرر أن يحرر نفسه بيده! أبهرنا بقدرته على التحمل في عز حر يونيو!

كنت أستيقظ صباح كل يوم، وأسأل نفسي: هل ستمتلئ الميادين، أم أن عزم الناس سيفتر وهو أمر طبيعي؟

لكنه لم يفتُر يومًا واحدًا، قادت المحافظات المسيرة. لا يمكن أن أنسى المنصورة التي كنت أنادي عليها، فإذا بأهلها في الميادين يلبون النداء.

لا يمكن أن أنسى المحلة والإسكندرية ومدن القناة التي رفضت حظر التجوال من قبل، ولعب أولادها الكرة في الشارع. محافظات علمنا أهلها معنى الوطنية ومعاني حب البلد.

كلما أصابني الخوف كانت صورتهم تملؤني ثقة وشجاعة، وقدرة على الاستمرار.

كلما ترددت قليلًا كانت صور النساء على الكراسي المتحركة والرجال الكبار يهتفون:

"ارحل"... و"يسقط حكم المرشد"، تملؤني شجاعة.

كُنتُم بحق مبهرين، صادقين، محبين لهذا الوطن. وفي تلك الذكرى هي تحية لكل رجل وامرأة وشاب وفتاة وقفوا في الميادين يطلبون الحرية من النظام الديني.

دخلت الاستديو يوم ٣ يوليو، ولا أعرف كيف ستكون النتيجة.

كنت في زيارة صباح نفس اليوم للأستاذ هيكل؛ كي نعد حلقة استثنائية من حواراتنا صورناها فيما بعد في فندق الموفينبيك، لأول مرة، حيث كان التحرك إلى موقع التصوير الأصلي في فندق الفورسيزونز مستحيلًا أمنيا.

دار النقاش بيني وبين محمد هاني، مدير القناة والأستاذ هيكل، حينها، حول أن الطريق قد يتجه إلى انتخابات رئاسية مبكرة كيلا يتعامل معنا العالم على أننا انقلابيون.

أذكر كيف صرخت حينها وأنا أنظر إلى كوبري الجلاء من شرفة منزله بالجيزة:

"الناس دي ح تمشي والإخوان ح يزوروا الانتخابات بطريقتهم، ويرجعوا تاني من الشباك. إنها إرادة الناس إرادة الملايين، وليست انقلابا".

دخلت الاستديو ولا أعرف لأي منقلب تتجه الأمور، حبست أنفاسي وأنا أستمع لوزير الدفاع حينها المشير عبدالفتاح السيسي، وما إن قال جملة "يتولى رئيس المحكمة الدستورية إدارة شئون البلاد" حتى صرخنا جميعًا في الاستديو، وقفزنا فرحًا.

صرخ المخرج فجأة في أذني: "يلّا راجعين ٥ ٤ ٣ ٢ ١ اتفضلي: فإذا بي أصرخ: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر… ولا حد يقدر عليكِ يا مصر.. ولا حد يقدر عليكِ يا بهية".

مازالت أسعد لحظاتي، وما زلت مؤمنه بها" ولا حد يقدر عليكي يا بهيه"…
نقلا عن مصراوى