د.ماجد عزت إسرائيل  

 نريد هنا أن نرصد مكانة البطريرك عند المسلمين على شاكلة صالون المهندسة "فاطمة ناعوت" هذا الصالون الذي بدأ منذ نحو ثلاث سنوات،وقامت صاحبته بدعوة رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية قداسة البابا "تواضروس الثانى"البطريرك رقم(118) – منذ 4 نوفمبر 2012م وحتى الآن – لحضور الصالون يوم السبت الموافق(29 يونية 2019م) تحت عنوان" الوطن عند السلف الصالح"،ومنذ أن أعلنت ذلك اعترض العديد من الأقباط على ذات الفكرة وعلى حضور البابا لمثل هذه الصالونات – هنا لا اريد عرض نماذج لهذه الاعتراضات لشعب الكنيسة – ولكن من الممكن جمع ملخصها في أن صاحبة الصالون تريد أن تستغل البابا والكنيسة وشعبها لصالح مصالح شخصية لها،بعد أن نجحت في استغلال ذلك بالضحك على عامة الأقباط وأقناعهم بأنها تدافع عنهم، وبناء على ذلك تم دعوتها إلى خارج البلاد بحجة مناقشة هموم وقضايا الأقباط.
 
كما أن البعض اعترض على حضور البابا صالون يصاحبه الغناء وفرقة دربوكة، وخاصة بعد أن تم تحديد الدار البطريركة مكان لإقامة هذا الصالون بدلاً من أحد الفنادق، لأنهم يدركون أن الكنيسة بيت للصلاة وليس لمثل هذه الصالونات. 
 
وهنا أسجل للتاريخ أن مكانة البطريرك هي حضور ندوات أو مؤتمرات علمية تنظمها المؤسسات الحكومية أو الخاصة سواء كان ذلك داخل مصر أو خارجها، ويكون بدعوات رسمية ومستندات عبر الدار البطريركية.
 
ويرى المعارضين أن مثل هذه الصالونات التى هدفها في المقام الأول مصالح شخصية. ربما اعتقد أن المعارضين لفكرة الصالون هو الحفاظ على مكانة البابا والكنيسة،وخاصة الكنيسة تمتلك العديد من القنوات الفضائيات التى من الممكن نقل كل ما يريد قداسة البابا توضيحه أو تفسيره على الهواء مباشرة. كما أن هناك إجتماع قداسته الأسبوعى وهو نافذة لتوصيل ونقل أى حدث أو مناسبة بجانب الوعظ.
 
وعلى شاكلة صالون ناعوت.... الآن عزيزى القارىء أتركك مع هذه الدراسة العميقة لكي تعرف مكانة البطريرك عند المسلمين  
 البطريرك في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هو أعلى سلطة دينية، ولذلك فأن مكانته - أو إذا جاز لنا التعبير جلوسه على كرسي مار مرقس- يظل يلفت أنظار الشعب بصفة عامة، وشـــــعب كنيسته بصفة خاصـــة. 
 
فمنذ دخول الاسلام أرض مصر، والبطريرك  يتمتع  بمكانة كبيرة عند المسلمين، لدرجة أن بعض الحكام والولاه كانوا يتدخلون في أختياره؛ ونذكر على سبيل المثال حدث  فى أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، عندما تنيح (توفي ) البابا "زخارياس الأول "البطريرك رقم (64)(996م -1023م)، تطلع بعض الأراخنة أن ينالوا منصب البابوية بواسطة استخراج أمر من الخليفة الفاطمي، فلما علم "بقيرة الرشيدى "الكاتب القبطي، حمت الغيرة على الكنيسة في قلبه فجمع قوماً من الأقباط، وذهب إلى الـــوزير "على ابن أحمد "ودار حوار حول ذات الأمر، وكان الوزير يتصف بالحكمة والفهم ويحب الأقباط، فقال "لبقيرة "والأراخنة:" إنه عند رسامة البطريرك يجب دفع ثلاثة آلاف دينار (العملة في ذات الفترة )، وقد تركناها كرامة لكم، فيجب أن تفعلوا بعد هذا ما يرضي الرب، كما يفعل عندنا في بغداد، وذلك لأنهم عندما يرسمون إنساناً بطريركاً يجتمعون بداخل الكنيسة ويختارون (ينتخبون ) مائة رجل من رهبان الأديرة ثم يفحصونهم حتى يكونوا خمسين ويعيدون فحصهم إلى أن يصبحوا خمسة وعشرين، ومن الخمسة وعشرين حتى يصلوا إلى ثلاثة مختارين ويكتبون أسماء الثلاثة في ثلاثة رقاع والرابعة يكتبون فيها اسم الرب ،وتشمع وتوضع على الهيكل ،ويصلون قداساً،وبعد صلاة القداس يحضرون طفلاً صغيراً بريئاً من أولادهم ليس عليه خطية، فيمد يده ويأخذ واحده من الرقاع فإذا كانت واحده من الثلاثة رسموه بطريركاً،وإذا كان فيها اسم الرب علموا أنه لا يوجد من يصلح من الثلاثة فيكتبون أسماء ثلاثة آخرين ويستمرون كذلك حتى يختار الرب واحدا ًيرسموه "، فتعجبوا من حكمته ومشورته في إخبارهم هذا الأمر ،وبالرغم من ذلك لم يأخذوا بآرائه،واجتمع الأساقفة والأراخنة ،يؤيدهم الشعب على اختيار احد رهبان دير القديس أبو مقار وهو البابا"شنودة الثاني "البطريرك رقم (65)(1024-1038م) ووأفق الخليفة على قرار اختيار.
 
   وفى القرن الثالث عشر الميلادي ذادت مكانة البطريرك عند المسلمين وبالتحديد في عهد البابا كيرلس الثالث(ابن لقلق)(1235-1243م)، فعندما علم هذا البطريرك بوجود جماعة؛ تقف على باب كنيسة القديس مرقوريوس لمحاولة أعاقته هو ومن معه، لحضور عيد تذكار قديس الكنيسة ؛ فأمتنع عن الحضور، فلم علم الوالي أرسل على الفور أحد أمراه لخدمته لأقامة الصلاة، وتقديم التهاني.
 
كما كان من عادة الفقهاء المسلمين أن يجتمعوا مع السلطان، وفي ثالث يوم عيد القديس مرقوريوس حضروا عنده، وكرروا شكواهم من المسيحيين ومن ركوبهم البغال، ولكن الواي لم يصغ إلي شىء من ذلك، وبعد يومين كان الوالي في مجلس وقال:" بلغني أن أهل مصر( القاهرة القديمة) تعرضوا للأب  البطريرك وإلى كنيسته، وأقسم بالله لئن جري شىء من هذا، فسيكون عقاب من يفعل روحه"، واشتهر هذا الأمر لدس كل أحد واطمانت نفوس المؤمنين، وتشددت نفس البابا البطريرك.
 
 وقد حدث فى عهد ذات البابا أن تعرضت كنيسة المعلقة لحادثة سرقة بعض الاوانى النحاسية؛ وبعد شهادة الجيران المسلمين شهدوا شهادة الحق، على أن حادثة السرقة تمت علي يد مؤذن المسجد المجاور لذات الكنيسة، فتجمهر الناس لايقاع الفتنة، فجأء الوالي وصرف الناس، وأمر بغلق المسجد، وتجمع بعض كبار المسلمين .وتوجهوا لنائب السلطان وشكوا إليه وقالوا:"يامولانا تغلقون المساجد وتفتحون الكنائس" فقال لهم:"هذا حديث لا يصح أن يسمع، فالكل بفتح (مساجد وكنائس) ومن أراد المسجد ذهب أليه، ومن أراد الكنيسة ذهب إليها، ولكن بشرط ألا يوذي أحداً ولا يتعرض أحد لآخر. فهولاء رعية السلطان، وأنتم أكثر من يعملون،وإن كان هذا المسجد فقيراً، أنا أقوم بمطالبه، إلا أن التعدي لا يمكن لأحد أن يقوم به".
 
        ويذكر أن تلك الفترة كلها كما وصفها البابا البطريرك قائلاً:" كان المسيحيون مع المسلمين في إنصاف عظيم وإكرام جسيم وود عظيم.فالله سبحانه يحرس أيامهم وينصر سلطانهم، وهو سلطاننا وإمامهم وهو راعينا". 
 
وفي العصر العثماني تمتمع البطريرك بمكانة كبيرة لدي المسلمين؛ لدرجة وصلت إلى قيامه بدور شبة قضائي ولجوء بعض المسلمين إليه فى حالة ما يكون النزاع مع قبطي، بل أن بعض وثائق المحكمة الشرعية تسجل لنا حضور البابا نفسه إلى القاضى المسلم لفض بعض النزعات؛ ما بين بعض المسلمين، أو ما بين بعض المسلمين والأقباط. 
 
  وفي منتصف القرن التاسع عشر، ذادت مكانة البطريرك لدي المسلمين ومن هؤلاء البابا كيرلس الرابع البطريرك رقم(110)(1854-1861م) الذي لقبوه بـ (أبو الاصلاح) لما أدخله من تطوير فى العملية التعلمية، لدرجة أصداره أمر إلى رهبان دير بوش( مركز ناصر محافظة بنى سويف) بتعليم ابنا القرية من مسلمين واقباط، بل قدم للجميع المساعدات من الماكل والملبس فى محبة تامة. 
 
ومن أوائل البطاركة الذين نالوا مكانة كبري لدي الحكام المسلمين في منتصف القرن العشرين  ، البابا " كيرلس السادس "البطريرك رقم (116) (1959-1971م)، والمعروف في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولدى المؤرخين والسياسيين برجل (الصلاة و القداسات)، الذي كان يستقبله الرئيس جمال عبد الناصر(1954—1970م) في منزله، بل تبرع له بقطعة أرض أقيمت عليها الكاتدرائية الحالية بالعباسية، كما تبرع أولاده بيما يملكوه من نقود للمساهمه في بنائها.
 
وفي أواخر القرن العشرين نال المتنيح البابا شنودة الثالث البطريرك(117) (1971-2012م) مكانة كبيرة لدي المسلمين على مستوى مصر والعالم العربي لمواقفة الوطنية البارزة وخاصة مشكلة فلسطين ولرفضة التام دخولها إلا مع المسلمين، فلقبوه بـ ( بابا العرب) ولايزال يعرف بهذا اللقب.
 
ومنذ أن جلس البابا تواضروس الثاني البطريرك رقم(118) – بابا الكنيسة القبطية الحالي منذ 4 نوفمبر 2012م – ونال مكانة كبيرة من الشعب المصرى والعربى والعالمىي وخاصة بعد مواقفه الوطنية، وخاصة بعد أحداث ثورة(30 يونيو 2013م)، وقيام الإخوان المسلمين بحرق ما يقرب من (104) مؤسسة مسيحية بمصر ما بين أديرة وكنائس ومدارس ومستشفيات وجميعيات خيرية،حيث تحدث قداسته عبر وسائل الإعلام وذكر قائلاً :"وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن".
 
وأيضًا في عام 2014م عندما زاره "فليب برزر" خبير شؤون الشرق لسفير الفاتيكان لدى الأمم المتحدة، حيث تحدث قداسته له قائلاً:"مصر دولة خاصة، وهي الوحيدة التي زارتها العائلة المقدسة ومكثت فيها ثلاثة سنوات ونصف، وتعتبر أرض مقدسة ولها نعمة خاصة، ونعتبر أن كل البلاد في يد الله إلا أننا نعتبر مصر في قلب الله".
 
    وأخيراً، نريد السلام والخير لمصرنا الحبيبة وشعبها الطيبين،ولكنيستنا القبطية ولشعبها الحكمة لأن"رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللهِ. إِنَّهَا تَوَلَّدَتْ فِي الرَّحِمِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَعَلَتْ عُشَّهَا بَيْنَ النَّاسِ مَدَى الدَّهْرِ، وَسَتُسَلِّمُ نَفْسَهَا إِلَى ذُرِّيَّتِهِمْ. (سفر يشوع بن سيراخ 1: 16).