عادل نعمان
كانت قلة محدودة من شباب قريتنا، يتوارون ويختبئون ليلاً فى «غرزة» على حدودها فى الخلاء، يدخنون «الجوزة» محشوة بالحشيش أحياناً، وأخرى بخليط من الحشيش والمعسل لضيق ذات اليد، وكانت «الجوزة» تمر بين المدخنين مرور الكرام، يتناولها الجميع فى دائرة واحدة ومن نفس إلى آخر فى سلاسة وسهولة، وكان هذا أمراً مقبولاً ومجهولاً فى حينه. والغرزة هى مكان ردىء، يشبه الأماكن المهجورة المغلقة على شاطئ ترعة أو فى شارع جانبى ينحسر مرور الناس فيه، يتناول روادها الحشيش والمخدرات والمعسل بعيداً عن العيون والمراقبين، ولأن المعسل نهاية خدمته بلوغ الحشيش، فقد ألحقه الناس به، وأنصفوا بينهما فى الحكم، واعتبروه أول المنزلق وبداية الانحدار إلى قاع رفيقه. وعادة مثل هؤلاء الناس «أصحاب الجوزة» نصيبهم من التعليم محدود، وحظهم من الأمراض وفير، وكان الأهل ينبهون علينا ألا ندنو ولا نقترب أبداً من هذه الأماكن، ونجتنب ونتحاشى هؤلاء القوم، ففيهما شر مستطير وهلاك أكيد وذهاب بلا عودة، وزوارها وروادها من أئمة الانحراف والبوظان، وكان الناس يُعرضون عن هؤلاء، فلا سلام ولا كلام، فهم مفسدون وفاسدون، ويا ويل من يحادثهم أو يصاحبهم أو يسامرهم، فقد ضل ضلالاً قريباً، وجليسها جليس سوء حتى لو لم يقربها من قريب أو بعيد، ولم يُفلت من هؤلاء أحد من مرض السل أو السجن إلا القليل. ماذا دهانا وماذا أصابنا حتى نعود سيرتنا السيئة الأولى، وماذا أصاب نساءنا وبناتنا حتى تعود الأمراض سيرتها الثانية السيئة؟

المشهد المتكرر فى كل مكان، فى مدننا وقرانا، فى القهاوى البلدى والكافيهات الراقية، وفى نوادى البسطاء والصفوة، وفى الفنادق حتى النجوم الخمسة، تتوحد وتوجد فيها الشيشة لكل الرواد وبين الجميع، الرجال والنساء، الكبار والصغار، الغنى والفقير، حتى أصابت وسددت سهامها إلى الأطفال الصغار من البنات والأولاد، وأعادت إلى ذاكرتى مشهد «الغرزة» فى قريتنا على رداءتها وقبحها مهما ستروها وخبأوها وكتموها خلف ستارة زاهية منمقة ومزركشة بديلاً عن ستائر الخوص، أو جلسوا على كراسى وثيرة بدلاً من حجر أو كرسى قديم متهالك، أو ازدانت وتلألأت خلف أنوار ساطعة أو ساكنة راقصة خلفاً «للمبة الجاز»، فهى «غرزة حشيش» تضم نفس الوجوه التى تهلك صحتها وعافيتها، وتدمر يومها وغدها، وحاضرها ومستقبلها، مستترة تحت غطاء القبح والدمامة، أو مشرقة خلف رداء الوجاهة والأناقة والعز، وهو أمر جد خطير ومزعج ومدمر، إن لم يكن الآن فغداً، وإن لم يكن للكل فللبعض. الأمراض الصدرية كالسل والسرطان، وأمراض القلب، وتليف الرئة، وتسوس الأسنان والتهاب اللثة، إضافة إلى مرض اللوكيميا (سرطان الدم) لوجود مادة «البنزول» الكيماوية فى التبغ، وما خفى عن عيون الطب ربما يكون أعظم، كل هذه الأمراض بدأت تزحف وتحبو وتتسلل إلى صدور وقلوب وأجساد أبنائنا، وما كان منها فى ذمة التاريخ، وأصبح ماضياً نترحم عليه، بدأ ينمو جنيناً ويتأهب للنزول والظهور، ومهما حاولت شركات إنتاج التبغ أن تضلل وتزيف الحقيقة وتخفى نسبة الكربون والقطران والنيكوتين والمعادن الثقيلة والسموم فى منتجاتها تحت نكهات مختلفة تفاح أو خوخ أو غيره، وتدّعى أن نسبة المواد السامة فى التبغ زيرو، فإن الأبحاث تؤكد أن النسبة تتجاوز المعدل الآمن لصحة المواطنين، إلى جانب أن هذه الصناعة لا تخضع للرقابة الصارمة على منتجاتها، ولا تلتزم ببروتوكولات محددة.

قد يظن البعض أن الشيشة أقل خطراً من السجائر، وهو أمر ليس صحيحاً، وخد الكلام الصحيح، خطر تدخين الشيشة يتساوى ويتعادل بل يزيد على خطر تدخين السجائر، لاحتواء التبغ فى كل منهما على نفس المواد السامة والكيماوية، مثل ثانى أكسيد الكربون، والنيكوتين والقطران والمعادن الثقيلة، ووجود الماء فى الشيشة لا يخفف ضرر المواد السامة، بل على العكس فإن الشيشة تقلل من احتراق أوراق التبغ فتزيد من المواد السامة المسببة للسرطان، والأخطر أن تدخين الشيشة لمرة واحدة أو جلسة واحدة يعادل تدخين عشرين سيجارة فى المتوسط، مخاطر الشيشة تزيد وتتعاظم عن مخاطر السجائر، بل وتتفوق بالأمراض المعدية من شخص لآخر مهما حاولوا منع هذا التلاحم وهذا التواصل بالفلتر الخاص أو «اللى»، كل هذا يثبته الواقع وتؤكده الأبحاث.

ما هو الحل؟ وكيف يمكنك التخلص من لعنة الشيشة؟
الحل هو قرار جرىء خاص بكل واحد على حدة قبل فوات الأوان، وكل أب وأم لهما الولاية على أولادهما الصغار مسئولون مسئولية كاملة عن إقلاع أبنائهم مهما كلفهم الأمر، وعدم تأجيل هذا القرار إلى حين يُفرض فرضاً بأحكام طبية رادعة وباتة ونهائية، ويكون الطريق قد أغلقته المقادير والعودة فيه مستحيلة، بيدك لا بيد عمرو، والآن وليس غداً، وبالجزرة وليس بالعصا.
نقلا عن الوطن