محمود خليل
كانت واقعة التحكيم الشهيرة فى النزاع بين على ومعاوية من الوقائع الفاصلة فى تاريخ المسلمين، تستطيع أن تجد فى تفاصيلها البذور الأولى لنشأة الأحزاب الإسلامية الكبرى التى لم تزل تحرك الأحداث داخل العالم الإسلامى حتى الآن، فبرز الحزب الأموى السنى، والحزب العلوى الشيعى، والحزب الخارجى التكفيرى. كان الحزب الثالث هو الأكثر جرأة فى الاتهام، والأسرع إلى اختراع تهمة «التكفير» فى وجه مخالفيه.

وكان الحزبان الآخران أبطأ فى توظيف هذه التهمة فى إطار الخصومة السياسية التى أخذت -فى ما بعد- شكل المعارك العسكرية، لكن ذلك لم يمنع تبادل وتداول تهمة «الضلال» بين السنة والشيعة، وتوسّع الفريقان فى أحوال فى اتهام الخصم بالمروق عن الدين.

الخوارج هم أصحاب براءة اختراع فكرة «التكفير»، والأكثر استحضاراً لها فى ساحات الخصومة السياسية. ويبدو هذا التوجّه طبيعياً للغاية، فمن يحمل السيف ليريق الدم يجد فى تكفير الآخر سنداً مريحاً لتبرير قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق.

من السمات الأخرى التى تجدها واضحة فى فكر الخوارج سمة التمحّك بفكرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويمثل واحدة من المقدمات الأساسية لتسلل الشيطان إلى النفس الإنسانية، وإغوائها بفكرة أنها فوق الجميع، وأهدى من الجميع، وأفهم من الجميع، وأتقى من الجميع، وأنقى من الجميع، وبالتالى يعطى المتمحك بهذه الفكرة لنفسه سلطة محاسبة البشر.

الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب على كل مسلم، بشرط أن يتم ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»، وأن يفهم من يقوم بذلك أن هداية البشر شأن إلهى: «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ»، وألا يزكى نفسه على غيره «فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى».

«أحادية التفكير» هى التى تؤدى بصاحبها إلى «جريمة التكفير».

السمة الثالثة التى يصح أن نتوقف أمامها فى سياق تحليل الفكر الخارجى تتعلق بـ«كراهية الدنيا».

الخوارج يكرهون الحياة ويتمحكون فى هذا السياق بفكرة «الزهد». فى أحد الاجتماعات القديمة للخوارج فى العصر الأموى وقف أحدهم، وهو حرقوص بن زهير، وأنشأ يقول: «إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا تدعوكم زينتها وبهجتها إلى المقام بها، ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم».

كراهية الحياة والزهد فى زينتها مسألة تتناقض مع ما نص عليه القرآن الكريم: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

الخوارج خلافاً لنصوص القرآن الكريم يرون الحياة «بدعة كبرى».

أما السمة الأخطر فى أفكار وممارسات الخوارج فترتبط بـ«العزلة» أو الانسلاخ عن المجتمع، والتجمع على الهوامش أو التخوم، الأمر الذين يتيح لهم تنظيم المعسكرات.

مثّلت الجبال والقرى النائية أول وجهة فكّر الخوارج الأوائل فى الهروب إليها، فهم لا يستطيعون العيش بين البشر الطبيعيين، ربما لأنهم يظنون أنهم غير عاديين، وليسوا كمثلهم: «فكرة الاستعلاء».

وتجد فكرة الإيواء للجبل والصحارى سمة أساسية من سمات الخوارج، بدءاً من لحظة ظهورهم وحتى تنظيم القاعدة الذى آوى إلى جبال أفغانستان، وكذلك تنظيم داعش الذى اختار جحور جبال سيناء عندما قرر العمل فى مصر.
نقلا عن الوطن