حمدى عبد العزيز

 
كنت قد قرأت مقال الكاتب والسينارست عاطف بشاي في جريدة "المصري اليوم" بتاريخ 2 يوليو 2017 عن ذكري السندريلا المصرية الفريدة سعاد حسني وأيامها الأخيرة التي عانت فيها اشتداد وطأة المرض وقسوة الظروف الحياتية ونكران الدولة وبعض زملائها لها وقرار المسئولين - وقتها - بإيقاف نفقات علاجها واكتئابها الشديد من جراء إحساسها بخضوع الحقل الفني والسينمائي لقيميات السوق الرأسمالية بطابعها المتوحش التي لاتتعامل مع المبدع انطلاقاً من إنسانيته المبدعة وعلي وجه الخصوص النجمات السينمائيات التي تعاملن كسلعة تعرض في فاترينة العرض بما يتناسب مع مدي تجسمها الأنثوي الشكلاني ونضارتها وحيويتها وجمالها الخارجي مالم تنقص تلك العناصر التسويقية وبنفس القيم الإستهلاكية التي يتم النظر بها للسلعة المعروضة لدرجة أن تشعر الفنانة أنها مطلوبة للفرجة والتسلي فقط 
 
ويبدو أن عاطف بشاي (دون أن يذكر هو ذلك أو يلمح له) قد تبادر إلي ذهنه سيرة مأساة النجمة السينمائية العالمية المنتحرة "مارلين منرو" وهو يراجع الروايات التي تتحدث عن فضفضات سعاد حسني الأخيرة لبعض أصدقائها وذويها المقربين والتي تشبه حالة مارلين منرو في إحساسها بقسوة المجتمع الرأسمالي الذي لاتحتفي بقيمه وجوهر الإنسان الفنان وإبداعاته 
 
، خاصة في حالة النجمة الأنثي الجميلة الشكل
بقدر ماتحتفي بقيمتها الإستعمالية الإستهلاكية المتمثلة في جمالها الأنثوي كموضوع للنخاسة والعرض في فتارين المخيلة الجنسية
 
وماترتب علي ذلك من إخضاعها لقيم العرض والطلب مما أفقدها إحساسها بقيمتها الفنية والإنسانية وأدخلها في حالة الإحساس بالإنسحاق والاغتراب أوصلاها الإكتئاب فلإنتحار
 
ربما بني عاطف بشاي علاقة بين حالة الإحساس بالإغتراب والإنسحاق تحت أقدام قيم المجتمع الرأسمالي المتوحش في حالة مارلين منرو وتشابه حالة سعاد حسني معها فكانت تلك النهاية المآساوية المتشابهة لحياتهما
 
وهكذا بني علي ذلك فرضية انتحار سعاد حسني 
واستبعد فرضية مقتلها
 
وبغض النظر عن تناول السيناريست عاطف بشاي لروايات وثق هو بها افتراضه وانتهي عبرها إلي ترجيح فكرة انتحارها جراء وقوعها تحت وطأة ماسبق أن ذكره من معاناة واكتئاب
 
وبما أنني لا أمتلك أدوات بحث وتوثيق ومعلومات تساعدني علي تأكيد وقوع افتراض عاطف بشاي بانتحار سعاد حسني من عدمه ... 
لكن المؤكد في كل هذه الروايات مدي 
 
للإنسحاق الذي عانته روح سعاد حسني من جراء الغربة والإغتراب الذاتي والألم والإحباط 
 
وهو منطقي جداً لمن تابع حالة سعاد حسني وتابع معها حالة الوسط الفني المصري وخضوعها لقيم السوق المتوحشة التي هيمنت علي المجتمع المصري منذ أربعة عقود
 
لذلك سأنتقل إلي ماتفاعل واعتمل داخلي من أفكار ومشاعر وانطباعات تدفقت دونما إعداد وترتيب بعيداً عن فرضيات مقتلها أو انتحارها فالأمر بالنسبة لي لايختلف في مأساويته
 
ماانتهيت من قراءة هذا المقال حتي وقفت غصة كبيرة في حلقي، ووسعت من فقعات الحزن التي تتكاثر في قلبي هذه الأيام نتيجة التداعيات والتحولات التي يعيشها العالم وتعيشها المنطقة ومصر منذ آواخر ستينيات القرن المنصرم وحتي تاريخه ، مروراً بثمانينياته التي أقرت هزيمة الكثير من القيم الإنسانية النبيلة لحساب الكثير من قيم السوق
 
كذلك تسعينياته التي شهدت شبوب حيوان الفاشية الدينية الدنئ عن الطوق بعد أن ولد من بطن الرأسمالية كثالث مولود لها بعد توأم الفاشية والنازية الأوربية
 
،كل ذلك جري بالتزامن مع تصاعد سعار قيم السوق التي تدوس في طريقها الملايين من بني البشر وتحولهم إلي مجرد سلع ومستهلكين منسحقين أو قتلة وإرهابيين
 
ككثيرين كنت مفتوناً بسعاد حسني منذ الصغر 
فهي استطاعت أن تكثف عبر أعمالها في وعيي ملامح البنت المصرية البسيطة التي كنت أراها في أبنة البقال أو أبنة الجيران أو الطالبة الجامعية (بنت حتتنا)
 
كذلك الفتاة الريفية والفلاحة المصرية التي أراها لحماً ودماً وسط أقربائي وأهلي في الريف حين كنت أقضي إجازة آخر العام الدراسي عند أهل والدتي أو حتي عند أهل والدي المغادرون من صعيد مصر إلي ريفها البحري
 
تابعتها وتابعت تشخيصها للبنت والمرأة المصرية 
وكلما كبرت كبرت صورتها معي
 
حتي عندما اصبحت زوزو الذي لم يستوعبها تفكيري وأنا شاب مراهق ثم استوعبتها وأنا رجل تخطي مراحل الأربعينيات والخمسينيات من العمر
 
حتي في ذلك الفيلم الذي يتمحور حول حياة لاعب كثرة قدم بنادي الزمالك المصري "غريب في بيتي رأيت عبقرية سعاد حسني في تجسيد شخصية المرأة العاملة البسيطة متوسطة التعليم متوسطة الحال والتي تطحنها ظروفها الأجتماعية القاسية لكنها تعيش الحياة وتدور أمورها المعيشية وتواجه تحديات الحياة بالعمل 
 
حببت (عفاف) الممرضة المصرية والأرملة الشابة بسيطة الحال التي تربي أبنها أشرف الذي تركه لها زوجها مهندس البترول الذي سقط تحت آلة حفر البئر
 
ووضعتها إلي جانب ماقدمته في"الإختيار" و"صغيرة علي الحب" و"علي من نطلق الرصاص" و"الدرجة الثالثة" و"الجوع" و"شفيقه ومتولي"
في إحدي ليالي الثمانينيات وعلي موجات إذاعة صوت العرب اختار أحد مقدمي برنامج شهير اسمه "أغاني وعجباني" أغنية سعاد حسني " بانو ... بانو " 
اسرعت قبل أن يتم الضيف تقديمه للأغنية ووضعت الكاسيت وقمت بتسجيلها كمقتني نفيس حيث أن وسائل التكنولوجيا لم تكن تقدمت بعد ،
 
أخذت شريط الكاسيت كمن عثر علي كنز لسبب وحيد هو لكي أعرف إجابة شافية لسؤالي الذي ظل معي من يومها وهو :
لماذا وأنا أشاهد فيلم شفيقة ومتولي في إحدي دور عرض الأسكندرية (غالباً كانت سينما أمير) انفجرت بالبكاء العميق عندما وصلت سعاد حسني إلي مقطع الذروة في تلك الأغنية التي كانت ضمن سياق هذا الفيلم الذي سطر نفسه في وجداني " وعصير العنب العنابي ... نقطه ورا نقطه ... ياعذابي " ؟
 
صديقي اللذان كانا يشاهدان معي الفيلم يومها فسروا ذلك بأنني كثفت كل أزماتي الذاتية والوجودية في مشهد الأغنية
 
لكنني ادركت بعد أن اعدت الإستماع للأغنية عبر الكاسيت أن المسألة ترجع إلي عبقرية الإحساس الفني لدي سعاد حسني وكيف وإلي أي مدي كان إحساسها بالقهر والظلم الإجتماعي الذي يدهس مصائر البشر بلا رحمة أو شفقة أو أي اعتبار للكرامة الإنسانية،
 
وكيف استطاعت ان تغمس احبالها الصوتية في عمق هذا الإحساس الإنساني بالإنسحاق وان تهتز نبرات صوتها المثقلة بالفقد والحنين والوحشة والعذاب والغربة والرفض والتعب والمقاومة والهزيمة معاً - في آن واحد - كضحية مذبوحة تفتح أعينها برسائل اللوم والإدانة لهؤلاء الصنف من البشر اللذين يدوسون كل شئ وكل قيمة انسانية في سبيل إرضاء جشعهم ونزواتهم ومجونهم الوحشي
 
ادركت لماذا بكيت وقتها بكاء الوجد واللوعة واشتعال الوجدان بالثورة والحزن والنقمة علي ذلك الواقع الشديد الوطأة علي مصائر البشر
 
لكنني في نفس الوقت ادركت تلك العبقرية التي تكمن في ذلك الكائن المبدع الجميل الذي كانته سعاد حسني ، وإن ذلك الكائن يمنح كامل أنحاء روحه وجوهرها لما يبدع
 
لم أري سعاد حسني في حياتي سوي ثلاث مرات لاغير ، ولحسن حظي كان هذا ليس في محافل السينما والنجومية حيث تحجب الأضواء وصيحات الإحتفاء المجتمعي بعض الملامح الإنسانية الحقيقية للنجم
 
رأيتها مرتين منهما في مقر حزب التجمع بالقاهرة عندما كانت تعد لأمسية عن الراحل صلاح جاهين
 
لم أصدق وقتها عندما أخذني صديقي الدكتور مصطفي عباس زيكو لكي نسلم عليها وكان وقتها زميلي في الأمانة المركزية لاتحاد الشباب التقدمي
 
صدقوني لم تكن النجمة المتوهجة سعاد حسني بقدر ماكانت قمراً إنسانياً شديد المصرية والبساطة والتواضع الغير مصطنع في حديثها معنا في المرتين
 
وجدت فلاحة مصرية متحضرة ومواطنة وبنت " في منتهي الجدعنة " تتحدث أفضل وابسط منا عن الوطن وحقوق الفقراء والاشتراكية 
 
تحدثت عن مدي سعادتها بلقائها بشباب يساري ذلك لأنها تعتبر اليساريين أناساً وطنيين مخلصين
ثم كانت المرة الثالثة والأخيرة وفي عام 1986 تقريباً وفي حفل زفاف زميل ورفيق وصديق الشباب والعمر سيد عبد العال (رئيس حزب التجمع فيمابعد) علي صديقة العمر التي كنت ولازلت احتفظ لها بعلاقة وجدانية وأخوية " صفاء الطوخي " زميلتنا في اتحاد الشباب التقدمي (والنجمة السينمائية والفنانة الرائعة فيما بعد)
 
كان الحفل حفلاً بسيطاً عبارة عن سهرة للعائلتين والاصدقاء المقربين في شقة سيد عبد العال حضرت سعاد حسني بكل تجرد من مظاهر النجومية وسلوكياتها وهي التي كانت نجمة النجوم 
 
بادلتنا التحية كما لو كانت جارتنا أو بنت شارعنا
وعندما اندلعت الموسيقى 
 
قمنا نحن الشباب للرقص كنوع من التحية لصديقينا العروسين 
رقصت سعاد حسني معنا 
 
تصرفت كأي بنت من بنات الطبقة الوسطي بمعيارية وقيم الستينيات الجميلة 
تلك القيم التي كنا لانزال نحتفظ علي حرارتها داخلنا ونحن نغادر منتصف الثمانينيات
 
ولما لا 
فجميعنا كنا أبناء ثقافة مجتمع الستينيات الناهض الحالم
أقول لكم ؟ 
 
سعاد حسني ظلت في خاطري ترميزاً قوياً لتنوعات المرأة المصرية وتبدياتها التاريخية والإجتماعية
 
فهي الفتاة المصرية "إحسان" المنسحقة اجتماعياً في ظل وطن يعاني من جسامة الإحتلال الأجنبي وعملائه المحليين في القاهرة 30 فتدفع الثمن عبر المزيد من الضياع والإنسحاق ثلاث مرات وهي لاتزال فتاة في مقتبل العمر والحلم والطموحات
 
مرة لأنها أبنة جميلة لأسرة مهمشة اجتماعياً يعاني أبواها من تمزق قيمي نتيجة الشعور بوطأة الإنسحاق فيرون في جمالها الأنثوي وعداً بانتقالة إجتماعية للأعلي حيث حياة الوجهاء والبكوات الرغدة ومخرجاً اقتصادياً من حالة البؤس والعوز الذي تعاني منه الأسرة كثيرة العيال فيحكمون عليها حصار نظرة المجتمع الطبقي الذي يراها سلعة جسدية ينبغي أن تجري عليها مايجري في أسواق النخاسة من مزادات
 
كذلك تدفع ثمن هشاشة وضعها كأنثي في مجتمع يسير تحت نير التخلف فيضع أثقل قيوده علي عنق الأنثي فتنكسر طموحاتها وأحلامها في تحقيق ذاتها أو امتلاك أي قدر من المسئولية تجاه نفسها
 
وثالثاً تدفع ثمن احباطها وعجزها عن المقاومة في ظل الحرمان من أبسط تطلعات فتاة تخرج يومياً من عالم الحارة الشعبية الضيق إلي عالم المدينة ذات الشوارع والميادين والبنايات الفخمة الأوسع والأرحب أفقاً فتتوقف مقاومتها وسط لوم مستمر من حبيبها الثوري "علي طه" وهو الذي لم يفشل في تقديم حل عملي لها ينقذها من حالة الطرق الإجتماعي الواقع عليها من كل اتجاه بما في ذلك تلك النظرات المتشككة من أصدقاءه الثوريين تجاها
 
هي تستسلم للباشا "احمد مظهر" تحت وطأة هذا الطرق الإجتماعي وعلي قدر هشاشتها كأنثي منكسرة الروح لتبدأ التحول إلي قيمة استعمالية في يد تلك النخاسة الطبقية التي يمارسها مجتمع الطبقات المهيمنة التي تكتسب نفوذها ومكانتها الإجتماعية من واقع التبعية للمستعمر الأجنبي وواقع تخلف المجتمع وواقع نسيجه الإجتماعي الذي تحلل بفعل طبقيته الحادة بما يكفي لسماع صوت أنينه من خلال تلك النظرات المنكسرة الضائعة التي تحملها عيني سعاد حسني في القاهرة 30
 
حتي الآن لازالت أتسائل كيف كان آداؤها عبقري إلي هذه الدرجة 
وماهذا الوعي الحاد الذي أدت به شخصية الفلاحة المصرية البسيطة التي قررت أن تواجه شراسة الإستبداد والظلم بحيلة وصبر أجدادنا الفلاحين المصريين حلفاء الحياة بلا سلاح سوي الحكمة والصبر والحيلة الذكية
 
كيف حولت " كيد النساء " إلي سلوك للمقاومة وحماية اختيارها وحبها ورجلها وأبو أولادها في الزوجة الثانية؟
صحيح أن يد الكتاب قد كتبت وأبدعت 
وكاميرا المخرج قد دارت بحرفية وربما عبقرية 
 
ولكن سعاد حسني كانت وحدها لغة موحية تعبر بجوهر الفكرة وعلائقها الجمالية إلي وجدان المشاهدين 
سعاد حسني التي لم تكن تحمل أي شهادة جامعية بل لم تتعلم في أية مدارس كانت تخلق مستوي آخر للقراءة السينمائية
 
وهذا سر آدائها الجميل عندما مثلت في أفلام ترصد بدايات الإرتداد عن المشروع الوطني الذي كان حاضراً حتي حرب اكتوبر 73 
في ( علي من نطلق الرصاص) 
 
و ( أهل القمة)
حتي عندما كانت تؤدي تلك الأفلام التي عالجت الشروخ التي واجهت روح الطبقة الوسطي المصرية والتي ظهرت فيما بعد النكسة 
(بئر الحرمان) ، ( الحب الذي كان) ، ( الإختيار)
 
كانت سعاد حسني تجعلني أري الشروخ التي اصابت الشخصية المصرية عقب زلزال الخامس من يونيو 67
منك لله ياعم عاطف يابشاي كنت السبب في اندفاع هذا النزف الوجداني المتدفق 
 
فهي ليست أي أحد 
التي ظلت في داخلي كبقعة ضوء خالدة عالقة في نسيج الروح
 
حمدى عبد العزيز
21 سبتمبر 2017 
نقلا عن الحوار المتمدن