فاروق عطية 
ولما كثر إقبال القبط على الإسلام خوفًا من جهة وحفاظًا على وظائفهم من جهة أخرى. كانوا هم أيضًا وسيلة ضغط على المسلمين بأن أساءوا معاملتهم وشددوا عليهم الأحكام وقسوا في تنفيذها، ولا يستبعد أن يكونوا قد أساءوأ معاملة أصاغر المسلمين تشفيًا لهم وعملوا علي مكايدة غيرهم بالتظاهر بالأبهة والافتخار والظلم وأصبحوا موضع شكوى المسلمين من جديد ولذلك أصدر السلطان أمرًا بأن يعقد مجلس بحضرته يجتمع فيه بالأمراء والقضاة وبطريرك الأقباط وحاخام اليهود للتداول معهم والزامهم بتنفيذ ما يأمر به. 
 
واستقر الرأي علي إبعاد الأقباط من توليهم الوظائف العليا في ديوان السلطان وسائر دوواوين الحكومة والأمراء ولا يبقي منهم أحد حتي لو أسلم، وإلا يُكرهوا بعد ذلك على الإسلام منعا للانتقام لأنفسهم عن طريق إسلامهم، وإذا أسلم أحد منهم من تلقاء نفسه فلا يبرح باب أحد المساجد، بل يعيش من إحسان المسلمين أهل الخير. وكان هذا الحكم الصارم موجبا لطمع عامة المسلمين في الأقباط، فهجموا على بيوت الأغنياء منهم الذين فقدوا جاههم بطردهم من خدمة الحكومة ونهبوها.
 
في آخر شهر ربيع الأول من عام 721 هـ. شرع الملك الناصر محمد بن قلاوون في بناء ميدان فسيح في وسطه فسقية واسعة علي شبه بركة، في الجهة المعروفة الآن بـ"الناصرية". وكان في الموضع الذي اختاره كنيسة الزهري وهي كنيسة واسعة الأطراف محكمة البناء يسكن حولها عدد كبير من الأقباط (وهى المنطقة التي تحوى الأزهر وحارة زويلة وحارة الروم والغورية حتى منطقة الأنبا رويس بالعباسية) فأشار عليه المغرضون بهدمها لأنه لا يصح أن تكون للنصارى كنيسة ظاهرة بهذه الكيفية، أما هو فلم يرد أن يهدمها، بل أمر أن تحفر حول جدرانها حتى تنهار من تلقاء نفسها، إلا أنها كانت على جانب عظيم من المتانة استمرت قائمة ولم تهدم فاغتاظ المسلمون ونقموا على الأقباط لما رأوا السلطان يدافع عنهم. ولما كثرت في هذه الفترة العمارات في العاصمة وكانت تحتاج لأنقاض وأخشاب ورخام وكانت كل تلك المطلوبات متوفرة في الكنائس فتواطأ المسلمون مع بعض الأمراء المماليك على هدم الكنائس انتقاما من الأقباط من ناحية وليستخدموا أنقاضها وأدواتها في بناء عماراتهم.
 
ويصف المقريزي الموقف بقوله: اخذ الفعلة في الحفر حول كنيسة الزهري حتى بقيت قائمة وسط الموقع الذي عينه السلطان لحفر بركة الناصرية، وزاد الحفر حتى تعلقت الكنيسة وكان القصد من ذلك أن تسقط من غير قصد لخرابها، وصارت العامة من غلمان الأمراء العاملين في الحفر وغيرهم من الغوغاء المتعصبين يصرخون على الأمراء في طلب هدمها، وهم يتغافلون عنهم إلى إن كان يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الأول من هذه السنة وقت اشتغال الناس بصلاة الجمعة والعمل في الحفر متوقف، فتجمع عدد من الغوغاء بغير مرسوم السلطان وقام فقير عند نهاية الصلاة ونادى بصوت عال "الله أكبر هيا بنا نهدم كنائس النصارى" وامتدت أيديهم نحو كنيسة الزهري وباقي الكنائس وهدموها حتى بقيت كوما وقتلوا كل من كان بها من النصارى، وأخذوا جميع ما كان فيها، وهدموا كنيسة مارمينا التي كانت بالحمراء، وكانت مُعَظَّمةٌ عند النصارى من قديم الزمان، وموضع اعتبارهم، وبها عدد من النصارى قد انقطعوا فيها -أي أقام حولها- كثير من الرهبان والراهبات ويحمل إليها نصارى مصر سائر ما يحتاج إليه الشعب، ويبعث إليها بالنذور الجليلة والصدقات الكثيرة، فوجد فيها مال كثير ما بين نقد ومصاغ وغيره، وتسلق العامة إلى أعلاها، وفتحوا أبوابها وأخذوا منها مالًا وقماشًا وخربوا واهلكوا كل ما فيها، فكان أمرا مهولًا. ثم مضوا إلى كنيسة الحمراء وبعد ما هدموها مضو إلى كنيستين بجوار السبع سقايات تعرف إحداهما بكنيسة البنات (دير الراهبات) كان يسكنها بنات النصارى وعدد من الرهبان، فكسروا أبواب الكنيستين وسبوا البنات، وكانوا زيادة على ستين بنتًا، ونزعوا ثيابهم وسلبوا كل ما وجدوه معهن، ونهبوا سائر ما ظفروا به وحرقوا وهدموا تلك الكنائس كلها بعد ذلك أطلقوا النار في بيوت النصارى حول كنيسة مارمينا، وحرقوا الكنائس الثلاث والناس في صلاة الجمعة .عندما خرج الناس من الجوامع شاهدوا هولًا كبيرًا من كثرة الغبار ودخان الحريق ومرج الناس وشدة حركاتهم ومعهم ما نهبوا، فشبه الناس الحال لهوله بيوم القيامة".
 
وكانت أخبار تلك التعديات قد وصلت إلى مسمع السلطان وقيل له أن الغوغاء يدعون أن ما يفعلون هو تنفيذا لأمرك فاندهش السلطان وانزعج انزعاجا عظيما وتعجب من جرأة العامة وأقدامهم على ذلك بغير أمره والافتراء عليه. وفيما هو يفكر فيما يجب عليه لمنع هذا التعدي وصل إليه خبر أن الغوغاء يحيطون ببابليون التي كان يسكنها أكثر أسرياء الأقباط وأغناهم، والغوغاء يشددون في حصارها ولا قدرة لمن بها على المقاومة وأن لم يسعفوا يهلكون، وحينما حاول رئيس الحرس منعهم رجموه بالحجارة. أمر السلطان الأمير ايدغمش أن يقوم حالا بفرقة من الاوشاقية "الخيالة" ليمنع الغوغاء من مواصلة عدوانهم، ولحق الأمير ايدغمش بمصر القديمة وركب الوالي إلى المعلقة قبل وصوله ليخرج من زقاق المعلقة من حضر للنهب فأخذه الرجم حتى فر منهم، ولما وصل الأمير ايدغمش وجد الناس يستعدون لحرق البوابة لأنهم لم يتمكنوا من فتحها وكان داخل سورها ستة كنائس فجرد ايدغمش ومن معه السيوف يريدون الفتك بالعامة فوجدوا عالما لا يقع عليه حصر وخاف سوء العاقبة، فأمسك عن القتل وأمر أصحابه بإرهاب العامة من غير إهدار دم، ونادى منادية: مَنْ بقى حُلَّ دمه. ففرّ من اجتمع من العامة وتفرق الناس، وقبل أن يبرح الأمير مكانه شدد علي رئيس الحرس بالمحافظة على بابليون ومن بداخلها، وحتى لا يكون لديه عذرا ترك معه خمسين من الاوشاقية.
 
كما بلغ السلطان بخبر ورد من القاهرة أن العامة ثارت في القاهرة وخربت كنيسة بحارة الروم وكنيسة بحارة زويلة فتزايد غضب السلطان وهم أن يركب بنفسه ويبطش بالعامة، فراجعه الأمراء وتعهدوا بإنهاء الأمر، وركب الأمير بيبرس الحاجب والأمير الماسي الحاجب إلى موقع الحفر. عندما وصل الماسي ومن معه إلي منطقة الحفر ليتدارك كنيسة الزهري وجدها قد هدمت عن أخرها وتحولت ألي أكوام من التراب وليس بها جدار قائم، ونهب الناس كل ما بها. وركب الأمير طينال إلى القاهرة ومعه عدد وافر من الرجال، وقد أمر السلطان بقتل من قدروا عليه من العامة بحيث لا يقعد عن أحد، فقامت القاهرة ومصر القديمة على ساق وهرب الغوغاء الغاصبون فلم يظفر الأمراء منهم إلا بمن عجز عن الحركة لما غلبه من السكر بالخمر الذي نهبه من الكنائس. وعاد الأمراء وأطلعوا السلطان بما حدث وهو لا يزداد إلا حنقًا، فما زالوا معه حتى سكن غضبه، وهكذا هدمت كنائس مصر والفسطاط فلم يجسر المسيحيين على الخروج من بيوتهم وبقوا محبوسين فيها أياما، وبعضهم تركها وسكن بابليون لحصانتها وعدم إمكان الهجوم والتغلب عليها بسهولة. ثم حدثت أحداث أخري مماثلة نتيجة دعوة المتعصبين لهدم الكنائس وتخريب بيوت المسيحيين، فهدموا كنيسة أخري في القلعة وأخرى لمار مينا في الزاوية الحمراء والقاهرة وكنائس حارة الروم والبند قانيين وكنيستين بحارة زويلة.
 
أما عن أخبار هدم كنائس الإسكندرية فيقول المقريزى "ومن يوم الأحد ثالث يوم الجمعة الذي حدث فيه هدم كنائس القاهرة ومصر القديمة، ورد الخبر من الأمير بدر الدين بيلبك المسني والى الإسكندرية. وفي الصباح نفس اليوم هدمت الكنائس فركب المملوك من فوره فوجد الكنائس صارت كوما من التراب وهدمت عن آخرها وكان عدد الكنائس التي هدمت أربعة في الإسكندرية واثنين في البحيرة، وكذلك كنائس دمياط والغربية والشرقية ودمنهور والبهنسا. كما هدمت ستة كنائس وعدد من الأديرة في مديبة قوص، وهدمت العديد من الكنائس في أسيوط وأسوان". فأشتد ضيق السلطان على العامة خوفًا، في الحال أدرك أن هذه الحوادث دبرت قبل حدوثها خاصة أنه علم أن جميع الحوادث قد تمت بعد ظهور شخص ينادي إبان صلاة الجمعة بين التاس صائحا:" الله أكبر هيا بنا نهدم كنائس النصارى" وأراد أن يقاضي مدبريها فأمر السلطان بالبحث عن رؤساء العصابة التي تسببت في هذه الفعلة الذميمة وإحضارهم لديه ليجازيهم بما يستحقون على هذا الاعتداء والافتراء فخاف بعضهم من افتضاح الأمر، إذ كانت لهم يد فيها في تسكين غضبه، وقالوا هذا الأمر ليس من قدرة البشر فعله، ولو أراد السلطان وقوع ذلك على هذه الصورة لما استطاع، وما هذا إلا بأمر الله سبحانه وتعالى وبقدرته، لِما عُلِمَ من كثرة فساد النصارى وزيادة طغيانهم ليكون ما وقع نقمة وعذابًا لهم، أما الطرق والشوارع في ذلك اليوم كانت مريعة جدًا لأنها كانت غاصة بالنهابين الحاملين منهوبات الكنائس وبيوت النصارى.