فاطمة ناعوت
قبل أعوام دقَّ هاتفى من رقم فرنسى. وهالنى أن أسمع صوت الموسيقار «محمد عبدالوهاب»، بنبرته العميقة الرصين، يقول: «بونسوار فاطمة هانم!»، انتفضتُ وخفقَ قلبى بعنف وأنا أسمعُ الصوتَ الذي لا تُخطئه أُذنٌ تربّتْ وكبرت على موسيقى عبدالوهاب وأغانيه! هل يهاتفنى ذلك الشاهقُ من العالم الآخر؟! أم أنّ في كوكبنا حنجرتين ثمينتين تحملان تلك النبرةَ الفريدة التي لا تُشبه إلا نفسها؟! ارتبكت الكلماتُ على لسانى ولم أدرِ بمَا أجيبُ. فصمتُّ. والصمتُ، كما تعلمون، في حرم الجمالِ جمالٌ!. استأنف الصوتُ قائلا: «أشكركِ على المقالات الجميلة عن أبى. كلماتك تدلُّ على أنكِ من دراويشه!» وذيّلَ كلامه بضحكة الموسيقار الشهيرة. هنا أدركتُ أن الچينومَ البشرىَّ أحيانًا يكون كريمًا؛ فيمنحُنا جزءًا مما فقدنا، حين يكون المفقودُ هائلًا لا يُعوَّض. كان المتحدثُ هو المهندس المعمارى «محمد محمد عبدالوهاب»، نجلُ الموسيقار الكبير، الذي يعيش في مدينة «كان» الفرنسية. في ألمانيا التي تعرفُ قيمةَ الموسيقى، أطلقوا لقب «هرم» على ثلاثة من عباقرة الموسيقى الألمان، تبدأ أسماؤهم بحرف B هم: (بيتهوفن- باخ- برامز) (Three B Pyramids). وإن كان الألمان قد استعاروا منّا رمزية (الهرم)، فنحن أولى أن نطلق لقب: (أهرامات الموسيقى)، على: عبدالوهاب، السنباطى، بليغ حمدى، الموجى. في صالونى الشهرى الجميل، الذي يستضيفُ كلَّ شهر قامةً شاهقة من قامات مصر الفكرية، الفنية، العلمية، الوطنية، كان ضيفُ الشرف لشهر مايو هو الموسيقار العالمى «محمد عبدالوهاب» الذي حضرَ شخصيًّا في صورة نجله الذي جاء إلى القاهرة لتشريف صالونى في المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية. واكتشف جمهورُ الصالون الحاشد أن التشابه بين الأب والابن، ليس فقط في نبرة الصوت، بل في الشكل والهيئة وحتى أسلوب الجلوس والأداء الحركى. شىء معجزٌ ملغزٌ، وجميل. حين سمعَ الجمهورُ ضيفَنا العزيز يقول: «مساء الخير» ضجّ المسرحُ بالهتاف والتصفيق يطالبونه بالحديث، حتى يستعيدوا نوستالجيا الأب الأسطورى، في صورة الابن الجميل.

وكان ضيف الشرف الآخر هو المايسترو الجميل «سليم سحاب» الذي فنّد ملامح عبقرية عبدالوهاب، التي صنعت لنا تلك المعجزة الموسيقية الخالدة.

حمل صالونُ هذا الشهر عنوان: «طاووسُ الشرقِ الساحر». واندهش بعضُ الناس من كلمة «طاووس»، لما تحمل من سمات نرجسية سلبية، رفض «دراويش» عبدالوهاب أن ألصقها بمحبوبهم الكبير. ولكننى أؤمن أن كلَّ فنان «حقيقى» يحمل قدرًا من النرجسية. بعضُهم «يتماكرُ» ويحاولُ إخفاءها، والبعضُ يكون أكثر صدقًا وجسارة، فلا يعبأ بإخفائها. ومنهم محمد عبدالوهاب. ولماذا الاستثنائيون في هذا العالم «طواويسُ» معتدة بفرادتها؟ اقرأوا هذه الكلمات: «محمد عبدالوهاب فنانٌ عبقرىٌّ، لو أنَّ اللهَ خلقَه في أيِّ عصر، أو أيّ مكانٍ، لكان مخلوقًا فذًّا. يؤمنُ بأن مكانَه الطبيعيّ بين صفوف الزعماء. استطاعَ بفضل فنّه أنْ يكتبَ اسمَه بحروفٍ كبيرة في التاريخ». هذا الرأىُ، الصحيح، ليس من كلماتى. ولا هي كلمات ناقدٍ موسيقيّ واعٍ. وليس تعريفًا من موسوعة عن قامةٍ مصريةٍ رفيعة. إنما كتبَ تلك الكلمات «طاووسٌ» جميل يعرف قدر نفسه، اسمه: «محمد عبدالوهاب». وكانت مجلة «الكواكب» قد طلبت منه عام ١٩٥٠ كتابة شهادة عن نفسه، صدّرتْ بها د. «رتيبة الحفنى» كتابَها: «عبدالوهاب، حياتُه وفنُّه». كلُّ مبدعٍ عظيم يحملُ قدرًا من النرجسية تجعلُه يصنعُ المدهشَ والاستثنائىّ من صنوف الفنون. طاووسيةُ الفنّان ملمحٌ طفولىٌّ نبيلٌ، يجعله يرى نفسَه مختلفًا وجميلًا، جديرًا بصناعة الجمال. ولو قَبِلَ أن يرى نفسَه عاديًّا، لقَبِل، بالتالى، أن يصنع «العادىَّ المعتاد». وهذا أحدُ أسبابِ انهيار الجمال في مصر الآن. عاديون يقدمون لنا العادىَّ فنقبلُه باعتباره فنًّا! لكن الفنانَ «الطاووس» يرى نفسَه جميلًا، ويعيشُ في رعبٍ دائم على هذا الجمال؛ ويخشى زوالَه، فيأبى إلا أن يُقدّمَ المدهشَ الممتاز. لهذا نقبلُ تلك الطاووسية من المبدع، لأنها أداةُ إبداعِه، ومن ثم سببُ مُتعتنا. لذلك أحببنا نرجسيةَ «محمود درويش» حينما يختالُ ويتدلّلُ على الصحافة والمعجبين. وأحببنا طاووسيةَ «أحمد عبدالمعطى حجازى» وهو يلقى قصائدَه مثل مايسترو؛ عصاهُ يدُه؛ تُطوِّعُ الحرفَ نَبْرًا وقَطْعًا وحركةً وسُكونًا وإدغامًا وإشباعًا، فيخرجُ الحرفُ مشحونًا بالغناء. ولهذا نُردِّدُ بَاسِمين قول المتنبى، عن نفسه، لسيف الدولة: «سيعلمُ الجمعُ مِمَن ضمَّ مجلِسُنا/ بأننى خيرُ مَنْ تسعى به قدمُ/ أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبيْ/ وأسمعتْ كلماتيْ من به صَمَمُ». نحبُّ طاووسيةَ عبدالوهاب الجميلةَ، لأنه ملأ حياتَنا موسيقى وعذوبة. وأما ضيفُ صالونى هذا الشهر (السبت ٢٩ يونيو)، فسوف يكون الرمز الوطنىّ النبيل «قداسة البابا تواضروس» تقديرًا لدوره الوطنىّ المشهود في إعلاء اسم مصر أمام العالم والحفاظ على وحدة صفّها في لحظات دقيقة من تاريخ الوطن. «الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم