( 1829 – 1914 )

بقلم/ماجد كامل
تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في يوم 10 يونية من الشهر الميلادي بتذكار نياحة "وفاة " القديس العظيم الأنبا ابرآم أسقف الفيوم والجيزة الأسبق ؛ والقديس الأنبا ابرآم نموذج حي لقديس معاصر عاش في القرن العشرين ؛ومن هنا فهو يعتبر آخر القديسين المعتمدين في الكنيسة الأرثوذكسية رسميا(تم اعتماد القديس البابا كيرلس السادس والقديس الارشيدياكون حبيب جرجس قديسين من بعده وذلك في جلسة ٢٠يونية ٢٠١٣وذلك للعلم) *؛لأنه حسب قوانين الكنيسة القبطية لا يعتمد الشخص قديسا إلا بعد مرور 50 عاما علي وفاته علي الأقل ؛ وذلك منعا لأي تحزبات أو أحقاد ضد الشخص ؛وكذلك حتي نعطي للتاريخ فرصة كافية للحكم عليه ؛فإذا عرفنا أن القديس الأنبا ابرآم توفي في 10 يونية 1914 ؛ فأن تاريخ اعتماده قديسا تم في جلسة المجمع المقدس في عام 1964 . أما عن تاريخ حياته ؛ فهو ولد في مدينة دلجا من اعمال مركز ديروط محافظة أسيوط عام 1829م من ابوين مسيحين تقيين بأسم بولس ؛وفي طفولته أرسله والده إلي كتاب القرية الملحق بالكنيسة ليحفظ المزامير وألحان الكنيسة القبطية ؛فنشأمحبا للكنيسة وعقائدها وطقوسها ؛وفي سن السابعة عشر أشتاقت نفسه إلي حياة الرهبنة ؛فذهب إلي دير المحرق ؛وكان يرأس الدير في ذلك الوقت راهب تقي يدعي "القمص عبد الملك الهوري " فوضعه فترة تحت الاختبار كلفه خلالها بجميع الأعمال الصعبة من رعي الماشية وتفليح الأرض وإعداد الخبز والطعام ؛ فكان يقوم بهذه الأعمال بمنتهي الهمة والنشاط ودون أدني تذمر ؛ وبعد انتهاء فترة الاختبار تمت رسامته راهبا بإجماع الأراء تحت أسم الراهب (بولس غبريال )

ولقد أشتهر خلال فترة رهبنته بفضيليتين أساسيتين ؛ الفضيلة الأولي هي العطاء ؛فكان يوزع بيده علي كل ما يحصل عليه من أموال أو عطايا علي الفقراء والمساكين ؛أما الفضيلة الثانية فهي ضبط النفس ؛فلقد كان لا يثور إلا نادرا . ولهذا السبب شاعت فضائله وانتشرت في جميع الأديرة والأماكن المحيطة حتي وصلت إلي الأنبا ياكوبوس مطران المنيا في ذلك الوقت ؛فأرسل في طلبه للحضور إليه ومقابلته في مطرانية المنيا ؛وعندما حضر إليه أخبره برغبته في تعيينه وكيلا عاما لمطرانية المنيا ؛ وعندما استلم مهام عمله بالمطرانية قام بتحويلها إلي مأوي للغرباء وملجأ للأيتام والمساكين ؛ ولكنه بعد فترة اشتاقت نفسه مرة أخري للعودة إلي الحياة الرهبانية ؛فطلب من المطران السماح له بالعودة إلي دير المحرق ؛فأذن له ؛ وعندما عاد إلي الدير ؛قام الرهبان بجمع تزكيات له تمهيدا لتيعينه رئيسا لدير المحرق ؛وعندما استلم مهام عمله ؛وضع خطة للنهوض بالدير وتلخصت معالم هذه الخطة في النقاط التالية :-

1- المساواة الكاملة بين الرهبان ؛فالجميع سواء في المحبة والرعاية

2- اهتم بحياة الرهبان الروحية ؛فكان يضع لهم برنامج يومي للصوم والصلاة ؛وكان يتابع كل راهب علي حدة في محبة وابوة صادقة

3- أهتم أهتماما خاصا بالفقراء المحيطين بالدير ؛ففتح أبواب الدير علي مصراعيه لهم .

4- أهتم القمص غبريال بمكتبة الدير وتنظيمها

5- أهتم أيضا بزيادة الرقعة الزراعية لدير المحرق ؛ وأهتم باستصلاحها وزراعتها حتي وصلت مساحتها إلي حوالي 20 فدانا ؛ومازلت حتي الآن تعرف بحديقة الأنبا ابرآم

6- أهتم أيضا بتجديد مباني الدير الأثري وتعلية أسواره

7- أهتم كذلك بالحفاظ علي ممتلكات الدير ؛وتوجد وثيقة بالدير بطلب معافاة أطيان الدير وقدرها 172 فدانا من رسم الأيلولة لوجود حجج تمليك شرعية كان قد طالب بها القمص غبريال رئيس الدير ومؤرخة بتاريخ 29 جمادي الأول 1286 هــ .

8- في عهده وبمناسبة النهضة الروحية الكبري التي حدثت بالدير المحرق ؛اشتاقت نفوس كثير من الشباب إلي الرهبنة بالدير ؛فقبل منهم في يوم واحد 41 شابا قام برسامتهم رهبانا ؛وكثيرين منهم صاروا قيادت دينية كبري في الكنيسة القبطية ؛ نذكر منهم الأنبا مرقس مطران أسنا الراحل( 1848- 1934 ) ؛ والقمص ميخائيل البحيري ( 1848- 1923 ) الذي صار قديسا عظيما في الدير المحرق ؛ومازال جسده الطاهر محفوظا في أنبوبة خاصة موجودة هناك .


ولكن مع بالغ الأسف مع كل هذه الإنجازات ؛ فأن أعداء النجاح في كل عصر وفي كل جيل هانت عليهم كل هذه الإنجازات ؛ فثاروا ضده بحجة تبديد أموال الدير علي الفقراء والمساكين ! فأتفقوا علي عزله من رئاسة الدير ؛ولم يكتفوا بذلك بل سعوا إلي طرده من الدير وللاسف الشديد نجحوا في ذلك ؛ ولكن الراهب القديس القمص بولس لم يغضب ولم يتذمر ؛بل في هدوء تام خرج من دير المحرق مع مجموعة من رهبان الدير ؛وتوجهوا إلي القاهرة لمقابلة وكيل البطريركية المرقسية بكلوت بك ؛ واتفقوا معا علي التوجه إلي دير السيدة العذراء الشهير بالبراموس .وكان رئيس الدير وقتئذ القمص يوحنا الناسخ الذي صار فيما بعد البابا كيرلس الخامس البطريرك ال112 ( 1875- 1927 ) فقابلهم بالبشاشة والترحاب وأعطاهم سكنا داخل الدير ؛ ولقد ظل بدير البراموس لمدة حوالي 11 عاما حتي سنة 1881م تقريبا . وعندما شغر كرسي الفيوم والجيزة ؛طلب شعب الفيوم من البابا كيرلس الخامس رسامة القمص بولس غبريال أسقفا لهم ؛وجمعوا التزكيات اللازمة لذلك ؛ وبالفعل تمت رسامته أسقفا علي الفبوم والجيزة تحت أسم "الأنبا ابرآم " وكان ذلك خلال عام 1881 . ومكث أسقفا علي الفيوم والجيزة خلال الفترة من (1881- 1914 ) أي حوالي 33 عاما حتي توفي بسلام في 9 يونية 1914 عن عمر يناهز حوالي 85 عاما تقريبا . ولعل أهم سمة تميز بها الأنبا ابرآم هو العطاء ؛فلقد فتح أبواب الأسقفية للفقراء والمساكين ؛وكان يجزل لهم العطاء بغير حساب .ومن القصص الجميلة التي رويت عنه في هذا المجال أنه كان يقيم ولائم المحبة للشعب بعد نهاية كل قداس ؛وكان الطباخ يقيم وليمتين ؛الوليمة الأولي للأغنياء وكانت مملؤة من كل ما لذ وطاب من الأطعمة ؛ أما الوليمة الثانية فكانت للفقراء ؛وكانت تحتوي علي الطعام الرديء وعندما سمع الأنبا ابرآم بهذه التفرقة غضب جدا ؛ونادي الطباخ وقال له " ضع نفس الطعام للأثنين معا ؛فليس عند الله غني وفقير ؛ بل الكل واحد أمامه " .

وروي عنه أيضا أن أحد أعيان القبط أهداه ذات ليلة شالا فاخرا ؛وجاءت أمرأة فقيرة تطلب منه نقودا ؛ولم يكن يملك ما يكفي ليعطيه لها ؛فأعطاها الشال الفاخر الذي أهداه إليه أحد الأعيان ؛ومرت الأيام ليقع الشال في يد نفس الشخص الغني ؛فأشتراه منها ؛ ثم توجه إلي الانبا ابرآم وسأله عن مصير الشال فقال له "الشال موجود فوق ياأبني " يقصد به أنه أعطاه لأمرأة فقيرة فأدخره فوق في السماء "؛وعندما أظهره له الرجل الغني ليعيده إليه مرة أخري ؛قال له "ربما تكون ظلمتها في ثمنه ياأبني " فرد عليه قائلا "لا ياأبي بل أعطيتها ثمنه بالكامل " . والشيء الجميل في عطاء الأنبا ابرآم أنه كان لا يفرق بين مسلم ومسيحي ؛فذات ليلة جاءه أحد المتعبين المتألمين ؛وكان مسلما ؛ فقال له "لقد ضاقت بي الحياة جدا ؛فقلت أذهب إلي أسقف النصاري " فرد عليه الأنبا ابرآم "يا ولدي ؛وهل أنا أسقف للنصاري وحدهم ؟" ولذلك عندما توفي خرجت الفيوم كلها عن بكرة أبيها تودعه إلي مثواه الأخير ؛وكان عدد الذين حضروا صلاة الجناز لا يقل عن عشرين ألفا من المسبمين والاقباط ؛وحضر الجنازة كذلك حكمدار الفيوم وكبار رجال المحافظة ؛حتي أنه أعد قطار خصيصا لنقل الشعب من الفيوم لدير العزب ؛وهو المكان الذي دفن فيه ؛ومازال جسده الطاهر محفوظا في ذلك الدير .

والأمر الرائع الجدير بالذكر هو ما ذكره المستشرق الإنجليزي "س.هـ . ليدر "في كتابه الهام والشهير "أبناء الفراعنة المحدثون " عن زيارته ومقابلته للأنبا ابرآم . وسوف أنقل للقاريء الكريم بعض المقتطفات التي جاءت عنه في ذلك الكتاب دون أي تدخل مني ( هو قديس من السماء عند المسلم مثلما هو عند المسيحي ؛ والمسيحيون الذين ينضمون إلي بركته إلي ذلك الجمع اليومي الذي يلتمس عونه الروحي وبركاته يشملون الأقباط واليونانين والروم ولا يقتصر هؤلاء الأخيرون بحال من الأحوال علي الأهالي المصريين . وكانت تروي لي عنه قصص لا يصدقها أحد عن إنكاره لذاته وأصوامه وحكمته الروحية ؛والراحة التي تحدثها الكلمات التي يقولها لمن أصيب في نفسه أو بدنه ؛وعندما يجزل عطفه علي الفقراء الذين يساعدهم من خزانة كانت أشبه بكوار الدقيق الذي لا يفرغ ...... وعندما تحدد موعد لمقابلته ذهبت إليه في الموعد المحدد .ونظرت بحب شديد في وجه هذا القديس المعاصر .وكان من المستحيل الشك في استحقاقه لهذا اللقب ؛إذ جعلت قدرة الروح النقية والجميلة نفسها محسوسة في الحال ؛بقوة تكاد تكون طاغية ؛وكان من المعتاد في كل كنيسة أن يركع الشخص علي ركبتيه كي يباركه الأسقف ؛ولكن الأنبا ابرآم لا يسمح بحال من الأحوال لأحد بأن يركع أمامه ؛وبعد أن أخذ الأسقف الصليب بيده اليمني ؛وأمسكه فوق رأسي ؛تدفقت صلوات وتبركات كنيسته المدهشة باللغة القبطية في أغلبها ؛وبنبرات تنم عن الإخلاص الشديد . ولقد انتشيت من الهمة التي كان ينطق بها الرجل ؛فلم أسمع من قبل صلاة بدت وكأنها تقيم صلة مع عرش النعمة بهذا الأمن الفوري ؛وبدا وكأن الأرض تضاءلت تاركة هذا الرجل يتحدث في الحضرة الجلية للرب نفسه . وكان شكل المباركة شديدة الشرقية حتي أنني طلبت بعد ذلك من كاهن يعرف القبطية والإنجليزية معرفة جيدة أن يفرغها لي ) .( راجع النص بالكامل بالفصل الخاص بالانبا ابرآم في الكتاب المذكور ؛ترجمة أحمد محمود ؛دار الشروق ؛الطبعة الأولي 2008 ؛ الصفحات من 289 – 331 )

وتبقي في النهاية كلمة أخيرة عن دير العزب ؛فهو يبعد حوالي 5كم تقريبا جنوب مدينة الفيوم ؛ولقد ذكره الرحالة فانسليب الذي زاره المنطقة عام 1672م ؛وقال عنه أنه يقع في منتصف الطريق بين مدينة الفيوم ودير الخشبة . وذكره أيضا القمص عبد المسعودي البراموسي في موسوعته "تحفة السائلين في ذكر أديرة رهبان المصريين " فقال عنه " بناحية الغرب ميديرية الفيوم ؛ .وفيه كنيسة علي أسم العذراء وكنيسة علي أسم الشهيد مرقوريوس أبو سيفين .وذكر في سجل الكنائس في كرسي الفيوم " .ولقد استخدم الدير والمنطقة ككل كمدافن لأقباط الفيوم بعد انقطاع الرهبنة فيه ؛ ولقد أصبح حاليا مزارا عالميا يزوره الألوف يوميا بعد وضع جسد الأنبا ابرآم بالدير .