عبد المنعم سعيد
لا شىء ينفع فى إجازات الأعياد قدر قراءة رواية رائعة أو مشاهدة فيلم أخاذ أو مباراة لكرة القدم مثيرة أو تترك ذلك كله وتستمع إلى الموسيقى. والنفع هنا لا يأتى فى الهروب من مجال المعرفة والتخصص، وإنما لأن أيا من ذلك أو كل ذلك، فى حقيقته يخرج الكاتب من النفق الضيق لما تعلمه، وربما العجز أمام الحقائق الإنسانية المعقدة، ولأنها فى النهاية لديها من الإمكانيات الكامنة ما يفك عقدا ويكشف عن أبعاد غريبة. وبالصدفة البحتة وقع النصيب على رواية «سيدات القمر» التى حازت ترجمتها الإنجليزية على جائزة البوكر الدولية للعام الحالى ٢٠١٩، ومؤلفتها «د. جوخة الحارثى» الكاتبة والأكاديمية والأستاذة بجامعة مسقط؛ وناشرها دار الآداب البيروتية التى قالت فى وصف العمل الأدبى «رواية من سلطنة عمان تتناول تحولات الماضى والحاضر، وتجمع بلغة رشيقة بين مآسى بشر لا ينقصهم شىء، ومآسى آخرين ينقصهم كل شىء». التقديم عن المؤلفة جاء فيه أن لها مجموعات قصصية سابقة، ورواية واحدة «منامات» لمن يريد أن يعرف؛ فالأديب أو الأديبة فى النهاية هو أو هى رحلة فى النفس البشرية وأحوال المجتمع وما يحيطهم من أحوال الطقس والتاريخ والتركيبات الاجتماعية، مع قدر هائل من الخيال والموهبة. وكان ذلك ما وجدت الكثير منه فى رواية «سيدات القمر» التى ربما بحكم المهنة والتخصص هو عن رحلة «الحداثة» فى عُمان؛ ولا شىء فى هذه الرحلة ما يعبر عن مكامن الصدور قدر أن تدور الأحداث حول «النساء»، ربما لأنهن عقدة العقد فى الموضوع، وعندما بدأت المملكة العربية السعودية مؤخرا فى برنامجها التحديثى فإن نقطة الانطلاق كانت قيادة النساء للسيارات، وما بعدها تفاصيل كثيرة تخص النساء والرجال والمجتمع كله. ولكن الوصول إلى هذه النقطة فى «عمان» كان له مسار آخر لم يكن له علاقة بقيادة السيارات- وإن كان ظهور السيارة ذاته شكل عجبا تكنولوجيا واجتماعياـ وإنما بتغيير العلاقات والتوازنات بين البشر من التقاليد وعلاقات القوى المستقرة إلى تلك الجامحة بالتغيير والتمكين.

القصة تبدأ بالبطلة «ميا» التى يروح ذهنها لرجل شاهدته مرات قليلة، إلا أن ما جاء فى نصيبها كان رجلا آخر لم يكن لها رأى حقيقى فيه وبعدها تمتد التفاصيل الكثيرة لأسرتها المباشرة، والعائلات المرتبطة بها، فى عودة للخلف إلى الأم «سالمة» والأخوات، ولكن «أسماء» و«خولة» يكون لكل منهما تجربة مختلفة، الأولى تزوجت بكامل إرادتها من جاء إليها من الأسرة، والثانية انتظرت عريسها القادم من كندا، وبعد الزواج فإن الرواية لا تنتهى إلا بالطلاق. «نساء القمر» يتشعبن فى القصة فى الماضى والمستقبل، ويظهر الخارج من طاقة الطائرة إلى لندن وفرانكفورت ومونتريال والقاهرة حيث الحداثات المكتملة أو التى فى طريقها إلى الاكتمال بينما الواقع نفسه يتأرجح بين التقليدية والحداثة، بين البر والساحل، والبداوة والحضر. وعندما جاء للبطلة طفلتها الأولى أصرت على تسميتها «لندن»، هكذا مرة واحدة، لكى تحكى بسرعة قصة التعليم فى السلطنة التى صارت كذلك بعد هزيمة «الإمامة» وهجرة زعمائها إلى مصر. «لندن» تمارس حداثتها الخاصة حيث درجة من التحرر الذى يقود إلى خيبة الأمل حتى لو كان «الخلاص» هو الثمن.

العلاقات دقيقة والجنس فيها يوجد عبر مستويات عدة، ولكن اللغة التى بها حياء شديد تلجأ إلى الشعر من «المتنبى» إلى «الرومى»، الحسى والصوفى، لكى تعالج علاقات «عزان»- زوج سالمة - و«نجية» أو «القمر» البواحة والساخنة لما فى الحال من توتر صامت بين الرومانسية والعملية. «عزان» هو الشاعر أو الذى يستعين بالشعراء، أما «القمر» فإنها سيدة أعمال تكسب المال، وتستكمل بالحب مكاسبها وشبعها. وفى العموم فإن الرجال على فصاحتهم فإن معالجة شخصياتهم أقل غنى من «سيدات القمر» التى عرفت الروائية كيف تغوص وتعبر عن دخائل دخائلهم فى كلمات قليلة قادت أحيانا إلى اللغة الدارجة العُمانية التى حرصت الكتابة على توضيحها للغرباء فى الهوامش. مهارة الكاتبة رائعة فى مزج تفاصيل كثيرة فى نسيج واحد متعدد الألوان، لا يجد غضاضة من تتبع قصة «العبودية» من الحضور إلى الزوال فى شخصية لها استقلال عالمها هى «ظريفة» التى رأت فى العبودية نوعا من طبائع الأشياء، وأبناؤها الذين عرفوا أن الحرية جاءت إلى «عُمان» ولكن ممارستها تحتاج السفر إلى الكويت. ولعل القصص الخليجى عامة، بما فيه «سيدات القمر» كان أكثر شجاعة فى متابعة قصة العبودية عما حدث فى مصر التى ظلت فيها حتى عام ١٨٧٥ حيث انتهت فى عصر الخديو إسماعيل؛ ولكن آثارها لم تظهر- فيما أعلم فى الرواية المصرية- بل إن قصة «المماليك» الذائعة كان فيها من الشجاعة ما لم يمتلكه الأحرار.

التفاصيل تغوص فى التقاليد حتى تبدو بعض الصفحات «تسجيلية» عن الزواج والزفاف والجنازات ولكنها لمن لا يعرف مثيرة فى حبكتها المنطقية حتى عندما تختلط مع عالم الحلم والعلم، ولا بأس أحيانا من التعرض إلى عالم الجن وحكاياته الذى يدور فى عقول بشر عجزت عن اكتشاف منطق الأحداث أو خوفا من أمور غامضة لا يعرف أحد موعد حلولها. مثل ذلك ينقشع كلما تقدمت الرواية إلى العصر الحالى بفعل التكنولوجيا والسفر إلى الخارج؛ ومن بين هذا الخارج توجد مصر التى أتى منها «ممدوح» المدرس، وذهب إليها المهاجرون ممن كانوا فى صفوف «الإمام» وهزموا فى الحرب مع «السلطنة» وعادوا بعد المصالحة ولكن عودة الغرباء الذين لا يقبلون الدفن فى مصر حتى ولو كان العيش فيها قد صبغ الأولاد بعادات جديدة.

القصص الخليجى عامة، وقصة «سيدات القمر» ليست استثناء، هى قصة الانتقال من الحياة التقليدية إلى الحداثة، ولكن «عُمان» لها تاريخ ممتد إلى الساحل الإفريقى الذى جاء منه العبيد؛ كما أن تاريخها مع الغرب كان مع النفط والتعليم وكلاهما خلقا حقائق حديثة ليس فيها تلك الحالة من الغضب الذى نجده فى الروايات المصرية أو المشرقية فى العموم. هنا لا نجد تلك الحالة من الصدمة الحضارية والحيرة العلمانية التى وجدها توفيق الحكيم أو الطيب صالح أو يحيى حقى، وإنما هنا درجة غير قليلة من التصالح رغم أن التحديث تأخر كثيرا حتى جاء النفط فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى. لم تكن هناك غضاضة فى تسمية المولود الأول «لندن» ريما تطلعا وإدراكا إلى تقدم سوف يأتى يوما وسوف يكون له ثمن لابد من دفعه.
نقلا عن المصرى اليوم