فاطمة ناعوت
امتحان الصف الخامس في مادة التعبير الإبداعى، وسؤالٌ يقول: «للأمِّ فضلٌ عظيم على أبنائها، أكتبْ في هذا الموضوع موضحًا فضل الأم عليك وواجبك نحوها»، وعدة سطور شاغرة يملؤها الطالبُ بإبداعه. فكتب أحدُ التلاميذ ما يلى: «أمى ماتت ومات معها كل شىء».

انتهت إجابةُ الصبى بتلك الكلمات، وهل من مزيدٍ عليها؟! اختصرت ٦ كلمات الأمرَ كلَّه؟ مات كلُّ شىء بموت أم ذلك الطفل البائس، فما عاد لمفردة «الأم» من معنى. ذكّرتنى عبارتُه بشطر من قصيدة «أبى فراس الحمدانى»: «إذا مِتُّ ظمآنا فلا نزل القَطرُ». فما جدوى المطر بعد موتى ظامئًا، وما معنى كلمة «أمّ» وقد ماتت أمى؟! صدقتَ أيها اليتيمُ الصغير! لا تعودُ الحياةُ حياةً، بعدما تطيرُ أمهاتُنا للسماء، وتتركنا وأيادينا لم تزل معلّقاتٍ في أطراف أثوابهنّ.

في مثل يوم أمس ٥ يونيو من العام الماضى، ماتت أمى الروحية الجميلة «آنجيل»، بعد عشر سنوات من موت أمى الحقيقية «سهير». فجرَّبتُ اليُتْمَ مرتين. وهذا شنيعٌ وقاسٍ وفوق قدرة البشر على التحمُّل.

حين جرّبتُ اليُتمَ لأول مرة عام ٢٠٠٨، واسيتُ نفسى، أو خادعتُها، في مقال عنوانه: «صوتُ أمى لا يطيرُ مرتين»، استهللته بقولى: «ارحمُ ما في موت الأمهات أنهن لن يَمُتن مرةً أخرى. جميلٌ جدًّا أن ينتهى رعبُ المرءِ من فكرة فقدان أمّه. أتذكرُ، وأنا طفلة، أننى ظللتُ أعيشُ هذا الرعب، منذ أدرك عقلى معنى الموت والحرمان ممن نحبُّ إلى الأبد. إذا ما سعلتْ أمى، أخافُ أن تموتَ، ويفرُغ العالمُ من حولى. إذا تأخرتْ أمى في العمل، أقفُ بالشرفة، مثل عصفورٍ يرتعد. تتلفّتُ رأسى لأمسحَ الشارعَ من طرفيه، والخوف يفترسُ طفولتى: ألن أراها أبدًا تدخلُ من مدخل العمارة؟! وحينما كانت تمنعنى من اللعب وقراءة «ميكى»، كان «الشريرُ» داخلى يرسم لى عالمًا رغدًا بلا أمّهات يُجبرن أطفالهن على شرب اللبن والمذاكرة والحرمان من الأصحاب واللعب والحلوى، لكنْ سرعان ما ينتفضُ «الطفلُ» داخلى، فأتوقُ للدفء. ولما مرضتْ أمى مرضَها الأخير، كنتُ بمجرد أن أتركها بالمستشفى، أناصبُ التليفونَ العداء. كلّما رنَّ، خفقَ قلبى هلعًا من سماع ما أكره. حتى عدتُ إلى بيتى مساء يوم ٥ سبتمبر ٢٠٠٨، لأجد الأنسر ماشين يحمل صوت خالى يقول: «حبيبتى فافى، البقاء الله، ماما سهير تعيشى انتى!» انهدم العالمُ من حولى، وتلاشت معالمُ كلّّ شىء في عينى ولم أدرِ ماذا أفعل؟ أمسكتُ الهاتف لأكلّم أمى وأسألها ماذا أفعل، كما تعوّدتُ أن أفعل في كل الأمور الصعبة التي أمرُّ بها. لكنها لم تردّ على أبدًا. فأدركتُ أن أمى ماتت. لكن هناك شيئًا جميلا في الأمر. إن رعبى من فكرة موتها قد مات أيضًا للأبد. فهى لن تموت إلا مرةً واحدة ولن أفقدها غدًا أو بعد غدٍ! فقد فقدتُها بالفعل اليوم، وانتهى الأمر!

محاولةٌ بائسة لإيجاد الراحة في موت أمى مرّةً واحدة، بدل انتظار موتها كلَّ يومٍ منذ طفولتى! لكننى، بعد ساعة واحدة، أدركتُ كم كنت أخدع نفسى! فالحقيقة أن أمى تموت كلَّ يومٍ منذ طيرانها إلى الله مع كل يوم يصافحُنى دونها، ومع كل محنة أمرُّ بها وحيدةً دون سند، ومع كل مشكلة عابرة تواجهنى خلال نهارى ولا أجد مَن يساعدنى على حلِّها، ومع كل صفعة من الحياة تصفعنى ولا أجد من يربتُ على ظهرى ويمسّد شعرى قائلا: (ولا يهمك، أنا معك!)، ومع كل عيد أم دونها، ومع كل لحظة يقع فيها بصرى على رقمها على شاشة هاتفى وأعرف أنها ليست على الطرف الآخر، ومع كل دقّة تليفون في بيتى أركض وأنا أرجو أن تكون المهاتفة من أمى، لأسمع صوتها ذاك الذي تبخّر في الفضاء ولم يعد موجودًا، ومع كل نظرة إلى مذياعها وساعة الحائط في بيتى تلك التي كانت يومًا في بيتها، ومع كل مرة تقع عينى على صورتها على الحائط في ثوب زفافها إلى أبى بعدسة الأرمنى «ڤان ليو»، ومع كل نظرة في عينى ابنى «مازن» لأتذكر صوتها يقول: «مازن طفل مُشرِّف»، وفى عينى ابنى «عمر» لأتذكر كم داخت به عند الأطباء لتنقذه من «التوحد».

واليومَ يحدث لى كلُّ هذا حين أبحثُ عن صوت ماما «آنجيل» في كل ركن من أركان بيتى ولا أجدها. أبحثُ عن حضنها لكى أبكى فيه فتقولُ لى: (متخافيش يا فافى ربنا معودك يجيلك في الهزيع الرابع. اجمدى. مامتك أنا!) وحين كانت تصحو فجرًا وتمرُّ على غرفة مكتبى وأنا أكتبُ فتقول لى: (جيتارة. اكتبى مقالات جميلة زى الموسيقى. فأنت جيتارة.) ماتت أمى، مرتين. ومعهما.. ماتَ كلُّ شىء.

«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم