نوال السعداوي
لا أذكر أننى حلمت مرة واحدة بثوب الزفاف، أو حرصت يوما على حضور حفلات الأفراح أو الأحزان التى تتجمع فيها العائلات، كنت أنفر منذ الطفولة من الكائنات التى تسير فى صفوف متلاصقة الرؤوس متشابهة الأصوات والحركات، ما أن ينفصل رأس عن القطيع حتى يصاب بالذعر ولا يهدأ ويطمئن حتى يعود إلى مكانه فى الصف، وإن كان آخر الصفوف، وأدناها قيمة، ضمن العبيد والجوارى، كنت أبحث فى التاريخ، البعيد والقريب، عن الأسباب التى جعلت العبودية تستمر حتى القرن الواحد والعشرين، رغم ثورات العبيد والنساء المتكررة دون انقطاع، لماذا يتم إجهاض الثورات الشعبية فى الشرق والغرب، والجنوب والشمال؟ لماذا يفوز الطغيان الاقتصادى والجنسى معًا؟ لماذا يصبح رجل عنصرى استعمارى رأسمالى شرس مثل دونالد ترامت زعيمًا للعالم؟.

سألنى صحفى مصرى بالأمس عن رأيى فى مسلسلات رمضان، واندهش كثيرا لأنى لا أشاهدها، وكأنما أنكرت وجود الله.

كل الناس تشاهدها كيف لا تشاهدينها؟، لأن الكل يشاهدها يا أستاذ، يندهش الرجل، أنت مختلفة عن الكل، يقولها بلهجة تنم عن الاستنكار وأقول بلهجة تنم عن النفور وأنت تشبه الكل يا أستاذ، يجمع أوراقه، ويختفى.

وبالمثل فى مباريات كرة القدم، يندهش كثيرون لأنى لا أشاهدها، فهى تبدو لى كالحمى، مثل الملاريا، تصيب الملايين بارتفاع الحرارة والدوار والزغللة والتهاب الحلق والمرارة، وزيادة إفرازات هرمونات العنف، ذبحت الجماهير فى أمريكا اللاتينية لاعب كرة أخطأ وأصاب الجون فى نفسه، وقتل أب ابنته لأنها فعلت ما فعلته بطلة المسلسل فى رمضان.

نادرا ما يجذبنى رجل يشبه كل الرجال أو امرأة تشبه كل النساء، كان التفرد هو شرط الإعجاب، هو شرط الإبداع، وتبدأ القصة الجيدة، بأن يقول لها «أنت مختلفة عن النساء»، وتقول هى له، «وأنت مختلف عن الرجال».

فى مفكرتى الطفولية كتبت عن حلم حياتى المختلف الذى كان يؤرقنى، ولا يؤرق البنات والنساء من حولى، عن الطاقة الحبيسة فى أعماقى، أحسها تحت القلب مباشرة، فى الخندق العميق تحت الضلوع، ما هى؟ غضب، فرح، حزن، ألم، لذة، الحلم بالطيران خارج الجدران، خارج القضبان، خارج البيت والمطبخ والمدرسة وكل الأماكن المغلقة؟.

الحلم يتجمع تحت ضلوعى، فى الليل حلم قديم، أقدم من الذاكرة والتاريخ، ينفصل عن زمانه ومكانه، يتوالد مع الزمن، يصبح أكثر صدقا ونقاء، أحتضن الحلم وأنا نائمة، أهدهده، إنه طفلى المقدس، تحوطه هالة من البراءة، يتحول فى النوم إلى جسد دافئ، ذراعان تلتفان حولى كذراعى أمى، إن هجرنى تتسرب منى قوتى، يتملكنى الحنين إليه كأنما هو حرارة القلب، الطاقة المحركة لجسدى، إن زاد عن الحد يشبه شلالًا هادرا من الغضب يكتسحنى، يدمرنى، وأنا نائمة فى الليل، يهدأ الشلال يصبح نهرًا هادئًا حنونًا، شعاعا دافئا من الشمس.

فى الصباح أفتح عينى وأنظر فى عينى أختى وأخواتى، أبحث فى عيونهم عن ذلك الشىء أو الحلم الذى يؤرقنى فى الليل، عيونهم كانت صافية هادئة لا تكشف عن أرق أو قلق أو أى شىء ينغص عليهم النوم، وفى المدرسة أيضا كنت أنظر فى عيون البنات، وفى الجامعة، وفى العمل، فى كل مكان، أنظر فى عيون الزميلات وكل من أرى من النساء، أحملق داخل عيونهم باحثة عن ذلك الحلم، دون جدوى، لم يكن هناك حلم إلا ثوب الزفاف والعريس والأحمر والكحل.

تلعب التربية والثقافة والتعليم والدين والإعلام دورا فى تشكيل الوعى واللاوعى منذ الطفولة، تتربى البنت على أن الزواج مفروض عليها كالموت، كان الكفن الحريرى الأبيض يشبه فى نظرى ثوب الزفاف، لم ألبس فى حياتى كلها ثوب زفاف واحد، ولم أحضر حفلات الزواج منها حفل زواجى؟، كانت جدتى ترمقنى وأنا أتطلع فى طفولتى إلى الطائرة المحلقة فى السماء، ترى البريق المتأجج فى عينى، أهمس فى أذنها بأحلامى، تنتفض جدتى بذعر، يا خبر إسود، دى مش أحلام البنات، كنت أرانى فوق جواد أبيض يطير فى الجو، وفى يدى سيف أضرب به الأعداء، كنت أريد أن أركب الطائرة لألقى القنابل على الإنجليز فى القنال، كان المدرس فى حصة التربية الوطنية يقول لنا إن الوطنية هى أن نقتل الأعداء، وفى طابور الصباح ننشد، «الله الوطن الملك» فى نفس واحد، حلمت بأن أكون فدائية أموت من أجل الله والوطن والملك، حذفت الملك من الثالوث المقدس حين قال أبى إنه ملك فاسد، ولم أتزوج فى حياتى إلا الفدائيين من الرجال، وتضحك جدتى مع الطفلة فى أعماقى حتى اليوم، من شطحات الإبداع.

■ ■ ■

تقود منظمات نساء العالم المظاهرات الشعبية من كافة البلاد تحت شعار: «لا عنصرية.. لا قهر جنسى.. لا فقر، يسقط ترامب، يحيا الشعب الفلسطينى»، يتجمعون بالملايين، غدًا الثلاثاء الرابع من يونيو 2019، فى ميدان ترافالجر فى لندن، لمواجهة ترامب، الذى يزور المملكة المتحدة الآن.
نقلا عن المصرى اليوم