د. الأنبا يوحنا قلته
هل أذن الفجر لنهضة عربية شاملة، أليست هذه الثورات فى البلدان العربية إنما إرهاصات لحياة قادمة أفضل وأجمل، نحن نعرف أن لا صدفة فى الوجود أو الكون، ولا صدفة فى مسيرة التاريخ وحركة الجغرافيا، وقل الأمر ذاته عن السياسة والاقتصاد والأخلاق، كل أمر له قوانينه التى تتحكم فى مسيرته قد نراها وقد لا نراها وإنما نلمس ثمارها وتوابعها، من ينكر أن ثورة تونس ومصر واليوم ثورة السودان والجزائر وليبيا، لها ملامح متشابهة ولعل أسبابها متقاربة، وتكاد نتائجها إذا استشرفنا المستقبل تكون فى مصلحة الإنسان العربى وخطوات لبناء المستقبل الذى يحلم به كل من يعيش على هذه الأرض الطيبة ونرصد بعضاً من هذه الملامح المشتركة فيما بين هذه البلدان.

كشفت هذه الثورات عن الأهمية القصوى لوجود جيش وطنى قوى وأزعم أن نجاحها أعتمد أولاً على مساندة الجيش ورجالة الأوفياء، حتى البلدان المستقرة المتقدمة اقتصادياً وعلمياً، تلجأ إلى جيوشها عند اشتداد الأزمات، أن الجيش فى كل أمة هو العمود الفقرى للوطن وهو الذخيرة الحية التى يحتفظ بها ليؤكد أمنه وسلامه.

زعيم هذه الثورات بلا منازع هو الشعب العربى بل قل هو الشباب العربى وقد تعمق وعيه وتفتحت أمامه أفق الآمال والأحلام وسعى ليحمل مسئولية مستقبل وطنه، تأمل مشهد المظاهرات والاحتجاجات يقودها شباب فى ربيع العمر، بلا عنف أو قسوة أو تخريب إن الأمل يطل من عيون هذا الشباب، إن أمة عربية جديدة تتمخض عنها المنطقة. لقد توارى خلف حشود الشباب، رموز التطرف الدينى، لم يعد التشدق بالأديان سبيلاً للوصول إلى السلطة أو النفوذ، إن الثائرين مؤمنون لا شك فى ذلك، ولكنه إيمان السلام والتضامن والخير، لا تطرف فيه ولا عداء ولا كراهية، أزعم أن الإنسان العربى الذى يؤمن بالحقيقة المطلقة، ومهد الأديان، وموطن الأنبياء، قد أدرك أن الإيمان لا يدفع إلى الشرور أو الإضرار بالناس، بل جميع الأنبياء والوحى كله إنما جاءوا من أجل الإنسان.

ونقول بكل ثقة إن هذه الثورات قد أكدت بما لا يدع شكاً إن مصر هى القلب النابض، والعقل المتوهج للأمة العربية، بل أقول بغير مبالغة أن مصر قد استعادت مكانتها الحقيقية الأصيلة، لم تتدخل فى شئون بلد آخر، لم تقف إلا مع القضايا الوطنية والعربية، وصدق أحد رجال البرلمان فى لبنان بقوله: إن رئيس مصر هو استثناء فى تاريخ الوطن العربى بل وفى بلده، وبكل اقتدار وحنكة وهو يتعامل مع الغرب والشرق فى عزة وكرامة مصر.

يلاحظ فى كل دعوات الثورات، ما يشبه التصميم على رفض الإرهاب، فهل اكتشفت البلدان العربية أن دعوة التمسح بالأديان واستغلال عقول البسطاء وهم يعلمون جميعاً أن الأديان، نور وحب وتضامن، إن هذه الدعوة قد فشلت إن لم تكن قد عبر أمواجها العقل العربى، وقد حاول البعض تعميق العداء بين الشرق وبين الغرب وإشاعة التطرف والكراهية والرغبة فى الانتقام، وأدرك الشباب فشل أى مشروع لا يتفق مع المبادئ الدينية السامية، وأن طبيعة الحياة التى لا تتقدم إلا فى مناخ الأمن والاستقرار، ومع الإيمان بأن أصل القضايا كافة وهو وحدة الجنس البشرى ووحدة المصير إلى الخالق، وقد أثبت تاريخ البشرية فشل حكم رجال الدين غرباً وشرقاً، فالأديان أسمى من أن تنتصر عليها السياسة.

إنى استشرف الغد الواعد للأمة العربية، وتضحيات هذه الثورات لن تضيع هباء، ودماء الشهداء هى بذور التقدم والترقى ، ودعنى أتفاءل بالقول إن عصراً جديداً يطل على هذه الأمة، ومصر هى الدليل الحاسم فى قدرتها على عبور التحديات والصعاب، إن الله المبدع ، الكمال والجمال المطلق، أبدع وطننا من أجمل بقاع الدنيا، غنى بالعقول وبالمواهب وبالطبيعة المتدفقة، خيراً هذه الثورات العربية هى فتح جديد للإنسان العربى ليتصل بحضارة العصر دون أن يهتز إيمانه بقيمه الروحية السامقة.
نقلا عن الأهرام